عبارة (غثاء السيل) التي أطلقها رسولنا صلى الله عليه و سلم على الأمة في حجة الوداع حينما تتدافع على قصعتها الأمم و تهزل و تجبن و تفقد كبرياءها هي العبارة التي ربما لا نتردد عن استعمالها لتوصيف حالة الوهن و العجز الراهنة التي ركن اليها العرب من دون الأمم المسلمة الأخرى و أتساءل اليوم هل إن أمتنا على وشك أن تغادر عصر الغثاء لتستعيد وعيها و تقف من جديد معتزة بمخزونها قادرة على رفع تحدياتها لأن العبرة الكبرى من خطبة حجة الوداع هي الدعوة الى الوحدة لأنها إذا أسست على العدل و المساواة فإنها لن تنفصم. هذا التفاؤل ليس مجانيا أو عاطفيا لأن بشائره جاءتنا هذه الأيام من ماليزيا على لسان رئيس حكومتها وصانعمعجزتها المفكر المسلم مهاتير محمد حينما نادى الى عقد قمة مصغرة في (كوالالمبور) خلال الأيام القادمة من أجل الاتفاق على خارطة طريق للتعاون بين الدول المسلمة و إحياء روح المبادرة و التضامن و التنسيق بينها.و ما الشراكة الإستراتيجية بين دولتي تركيا و قطر الموقعة بين حضرة صاحب السمو أمير قطر و فخامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الإثنين 26 نوفمبر الجاري إلا تعزيز لهذا التوجه الكريم الجريء نحو خدمة الأمة و الذود عن حقوقها و أتذكر هنا تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي والزيارة التي أداها لتونس الملك الصالح فيصل بن عبد العزيز سنة 1966 وعند زيارته للقيروان ألقيت أنا قصيدة حين كنت أتطفل على الشعر على مسامع الملك والزعيم بورقيبة أشدت فيها بالتعاون الإسلامي لأن ذلك الزمن كان يتميز بانحراف جامعة الدول العربية حيث تحولت إلى ملحق بالخارجية المصرية (ربما كماهو شأنها اليوم) حين قام المرحوم جمال عبد الناصر بتقسيم العرب الى تقدميين والى رجعيين وهو يخوض حرب اليمن التي أدت به الى اعتبار العرب منقسمينالى جمهوريات تدعي التقدمية و ملكيات توصم بالرجعية و الحقيقة التي ندركها اليوم بعد أكثر من نصف قرن أن العرب كانوا كلهم في ذلك العهد متخلفين و خارج سياق التاريخ وهو ما اتضح للعالم يوم الهزيمة النكراء لمصر و سوريا و الأردن و العرب جميعا يوم الخامس من يونيه 1967 و اكتشف العرب بأن المذيع المصري على أمواج صوت العرب المرحوم أحمد سعيد كان يخدر العرب بصوت جهوري حماسي لكنه كاذب يدلس الحقائق و يقدم تلك الهزائم العربية في شكل انتصارات وهمية تغيب الوعي! المهم أن الملك فيصل بن عبد العزيز و الزعيم بورقيبة فكرا في تلك السنة في تأسيس منظمة بديلة عن جامعة الدول العربية فاتفقا على أن يجتمع المسلمون وهم أكثر عددا و أقرب لبعضهم البعض بالعقيدة في منظمة عقدت مؤتمرها الأول مع حريق المسجد الأقصى عام 69 ثم لا ننسى أن الرجلين فيصل و بورقيبة كانا في أغسطس 66 أول من ندد بقتل المفكر و الإسلامي المصري سيد قطب بل إنهما حاولا التدخل لدى عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام على سيد قطب و للتاريخ فإن بورقيبة وهو العلماني كان تدخل لدى الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم و أنقذ من حبل المشنقة صديقه و صديق القضية التحريرية التونسية المرحوم محمد فاضل الجمالي و كان صديقي الشخصي أيضا تعرفت على فكره و علمه في الثمانينات و نشرت مقالاته القيمة حول التربية في العالم الإسلامي. ولم يهتم عبد الناصر بتدخلات بورقيبة و فيصل و تم إعدام سيد قطب و التجأ شقيقه محمد قطب الكاتب للسعودية و عاش ثم توفي منذ سنوات قليلة في مكة المكرمة! وأذكر أني أنا كنت في العشرين من عمري وكتبت مقالا في جريدة (العمل) مطلع سبتمبر 66 بعنوان (القطيعة مع عبد الناصر) بعد أيام من اعدام سيد قطب وهو ما اعتبرته خطأ ناصريا كبيرا لأن عبد الناصر لم يحقق انقلاب 18 جويلية 52 إلا بعد مناصرة جماعة الإخوان المسلمين له فقد كان عبد الناصر نفسه قريبا من فكر الإخوان مثل أغلب الضباط الأحرار وكان يزور قبر حسن البنا ويقرأ الفاتحة عليه باعتراف محمد حسنين هيكل! إذن كانت سنة 1966 محطة فاصلة بين القومية العربية من منظور عبد الناصر وبين التضامن الإسلامي كبديل إستراتيجي عن الهيمنة الناصرية فنشأت منظمة المؤتمر الإسلامي ومقرها بجدة وكان أمينها العام الذي أعطاها صبغتها الدولية هو الدبلوماسي التونسي الحبيب الشطي رحمه اللهوزير خارجية تونس الأسبق وأصبحت منظمة عالمية تجمع اليوم 57 دولة مسلمة واسمها اليوم (التعاون الإسلامي). لكنها أصيبت بما أصيبت به جامعة الدول العربي من تصلب الميثاق و جرتها الخلافات العربية الى حالة الجمود و الخروج من الفعل و التأثير.فياحبذا لو تعود الفكرة النبيلة المشروعة لإحياء التضامن الاستراتيجي بين الشعوب المسلمة بحكوماتها المعتزة بأمجادها لتكون أمة وازنة و مؤثرة في حضارة المستقبل و الإنسان و أمن العالم و سلامه و عدله.