ينزل بيننا هذه الأيام الشاعر والمفكر السوري على أحمد سعيد إسبر المعروف عربيا وعالميا بكنية " أدونيس " وهو اللقب الذي أطلقه على نفسه تيمنا بأحد الآلهة الفينيقية القديمة و زيارته هذه تأتي بدعوة من مركز تونس الدولي للحضارات الذي يديره حاتم الفطناسي الذي يفتتح نشاطه الثقافي لهذه السنة بتنظيم لقاءين مع هذا الأديب العربي الذي فاقت شهرته الأرض العربية لتصل إلى عواصم ما وراء البحار وينتشر عالميا بأشعاره التي ترجمت إلى لغات عدة وبمقارباته الفكرية التي لامست عديد القضايا الحضارية وهواجس الأمة العربية التي نجد لها حضورا مكثفا في أشعراه ومحاضراته. يتواصل هذا الحدث الثقافي غير المسبوق الذي انتظره الجمهور التونسي طويلا وثمنه عشاق الشعر وكل المحبين لأدونيس يومين كاملين اللقاء الأول احتضنته مدينة الثقافة يوم 29 نوفمبر مع أمسية شعرية حضرها السيد وزير الثقافة وبعض المثقفين والجامعين والطلبة. أما اللقاء الثاني فيحتضنه مركز تونس الدولي للحضارات بالمرسى يوم السبت 30 نوفمبر الجاري مع ندوة فكرية يلقي خلالها أدونيس محاضرة فكرية تحت عنوان " التنوع الحضاري وسؤال المعنى " خلال اليوم الأول من هذه الزيارة استمتع كل من حضر الأمسية الشعرية التي انتظمت بمدينة الثقافة بسماع مختارات مطولة من أشعار أدونيس التي انتقاها بعانية جعلت السامعين يحلقون معه في فضاء المعنى والرمز والاستعارة والميتافيزيقا والخيال والحلم فرغم أن الكبر قد كان واضحا على محيا أدونيس إلا أن وقع الزمن وبياض الشعر لم يمنعاه من أن يشد إليه الحاضرين لقرابة الساعة من الاستماع إلى أشعاره التي منذ أن ظهرت للجمهور في بداية الستينات من القرن الماضي حتى أحدثت رجة في الشعر العربي وكانت فتحا جديدا في القصيدة العربية الحديثة التي طور فيها أدونيس كثيرا وأدخل فيها معان لم تكن من قبل وتوخى فيها أسلوبا انفرد به ما جعله يتحول إلى شاعر إشكالي وتلقى أشعاره ردود فعل متباينة. الشعور الذي حصل عند الكثيرين بعد الاستماع الى مختارات من أشعاره على غرار قصيدته " شهوة تتقدم في خرائط المادة " وقصيدة " بابل " وقصيدة " قيس " أن أدونيس مهموم بالهم العربي ومهووس بقضايا الوطن العربي وقضايا الإنسان عموما فحينما تستمع إلى أشعاره ينتابك شعور بأن أدونيس هو النداء للحاضر المؤلم الحزين وهو الصدى لعمق التاريخ الضائع والأسلاف الذين لن يعودوا والثقافات المتنوعة والآخر المختلف عنا فقصائده على صعوبة هضمها وعسر تدبرها لكثرة توغلها في الرمزية والاستعارة تبقى قصائد عابرة للزمن والتاريخ ويصعب حصرها في زاوية من الزمن لتبقى وكأنها كتبت الساعة وقيلت في لحظتها الراهنة لشدة التحامها والتصاقها بواقع الإنسان العربي في أحلامه وآلامه ومطالبه. تحدث عن الحرب وعن الحب وعن المرأة وعن زمن التيه وعن الحسرة والألم والأمل والخيانة والتاريخ الضائع والحضارة التي لن تعود وعن العتمة والظلمة التي طال بقاؤها وفي كلمة كانت أمسية شعرية ساءل فيها أدونيس كل مفردات العرب بكثير من الرمزية والصور الشعرية الموغلة في الاستعارة والميتافيزيقا وبأسلوب فيه جرأة كبيرة في تحرير اللغة من قوالبها التي يقول عنها بأنها جامدة وبأن عملية تحريرها طريقة وشكل من أشكال تغيير نمط الحياة فالحداثة التي يدافع عنها شاعرنا تبدأ من هذا الخروج عن المألوف وعن كل ما هو معتاد ومتعارف عليه لنظمن استمرار الحياة واللحاق بالآخرين الذين حلقوا عاليا من دوننا بعيدا عن التشبث بالإرث القديم الذي يساء إليه حينما يستمر الإسرار عليه والأخذ منه من دون تطوير لأدواته المتمثلة في اللغة والشكل المستعملين. ومن جميل ما قرأه أدونيس في هذه الأمسية واستمعنا إليه قوله : " كيف أحرر أجنحتي التي تنتحب في أقفاص اللغة ؟ وكيف أسكن في ذاكرتي وها هي خليج من الانقاض العائمة ؟ هل الحيوانات السجينة فيّ ستعرف أخيرا طريق الهروب ؟ هل عليّ أن أدخل في سبات وأن أخون أعضائي؟ هل علي أن أصنع من الرمل سدادات لرئتي وأن أستلقي حجرا في أبدية الطاعة ؟ هل علي أن أدهن جسدي بزيت الآلة وأن أملأ حنجرتي بنعم نعم ، ولا لا كلا ليس لي وطن إلا في هذه الغيوم التي تتبخر من بحيرات الشعر ." كانت هذه مصافحة أولى مع الشاعر الكبير والمفكر الأديب أودنيس ولنا عودة ثانية مع محاضرته " التنوع الحضاري وسؤال المعنى "