عبارة (غثاء السيل) التي أطلقها رسولنا صلى الله عليه و سلم على الأمة في حجة الوداع حينما تتدافع على قصعتها الأمم و تهزل و تجبن و تفقد كبرياءها هي العبارة التي ربما لا نتردد عن استعمالها لتوصيف حالة الوهن و العجز الراهنة التي ركن اليها العرب من دون الأمم المسلمة الأخرى و أتساءل اليوم هل إن أمتنا على وشك أن تغادر عصر الغثاء لتستعيد وعيها و تقف من جديد معتزة بمخزونها قادرة على رفع تحدياتها و هذا التفاؤل ليس مجانيا أو عاطفيا لأن بشائره جاءتنا هذه الأيام من ماليزيا على لسان رئيس حكومتها و صانع معجزتها المفكر المسلم مهاتير محمد حينما نادى الى عقد قمة مصغرة في (كوالالمبور) خلال الأيام القادمة من أجل الاتفاق على خارطة طريق للتعاون بين الدول المسلمة و إحياء روح المبادرة و التضامن و التنسيق بينها. أتذكر جيدا الزيارة التي أداها لتونس الملك الصالح فيصل بن عبد العزيز سنة 1966 وعند زيارته للقيروان ألقيت أنا قصيدة حين كنت أتطفل على الشعر على مسامع الملك والزعيم بورقيبة أشدت فيها بالتعاون الإسلامي لأن ذلك الزمن كان يتميز بانحراف جامعة الدول العربية حيث تحولت إلى ملحق بالخارجية المصرية وقام المرحوم جمال عبد الناصر بتقسيم العرب الى تقدميين والى رجعيين وهو يخوض حرب اليمن التي أدت الى انقسام العرب الى جمهوريات تدعي التقدمية و ملكيات توصم بالرجعية و الحقيقة التي ندركها اليوم بعد أكثر من نصف قرن أن العرب كانوا كلهم في ذلك العهد متخلفين و خارج سياق التاريخ وهو ما اتضح للعالم يوم الهزيمة النكراء لمصر و سوريا و الأردن و العرب جميعا يوم الخامس من جوان يونيه 1967 و اكتشف العرب بأن المذيع المصري على أمواج صوت العرب المرحوم أحمد سعيد كان يخدر العرب بصوت جهوري حماسي لكنه كاذب يدلس الحقائق و يقدم مثل الزعماء تلك الهزائم في شكل انتصارات وهمية تغيب الوعي! المهم أن الملك فيصل بن عبد العزيز و الزعيم بورقيبة فكرا في تلك السنة في تأسيس منظمة بديلة عن جامعة الدول العربية فاتفقا على أن يجتمع المسلمون وهم أكثر عددا و أقرب لبعضهم البعض بالعقيدة في منظمة عقدت مؤتمرها الأول عند حريق المسجد الأقصى عام 69 ثم لا ننسى أن الرجلين فيصل و بورقيبة كانا في أغسطس 66 أول من ندد بقتل المفكر و الإسلامي المصري سيد قطب بل إنهما حاولا التدخل لدى عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام على سيد قطب و للتاريخ فإن بورقيبة وهو العلماني كان تدخل لدى الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم و أنقذ من حبل المشنقة صديقه و صديق القضية التحريرية التونسية المرحوم محمد فاضل الجمالي و كان صديقي الشخصي أيضا تعرفت على فكره و علمه في الثمانينات و نشرت مقالاته القيمة حول التربية في العالم الإسلامي. و لم يهتم عبد الناصر بتدخلات بورقيبة و فيصل و تم إعدام سيد قطب و التجأ شقيقه محمد قطب الكاتب للسعودية و عاش ثم توفي منذ سنتين في مكة المكرمة! و أذكر أني أنا كنت في العشرين من عمري و كتبت مقالا في جريدة (العمل) مطلع سبتمبر 66 بعنوان (القطيعة مع عبد الناصر) بعد أيام من اعدام سيد قطب وهو ما اعتبرته خطأ ناصريا كبيرا لأن عبد الناصر لم يحقق انقلاب 18 جويلية 52 إلا بعد مناصرة جماعة الإخوان المسلمين له فقد كان عبد الناصر نفسه قريبا من فكر الإخوان مثل أغلب الضباط الأحرار و كان يزور قبر حسن البنا و يقرأ الفاتحة عليه باعتراف محمد حسنين هيكل! إذن كانت سنة 1966 محطة فاصلة بين القومية العربية من منظور عبد الناصر و بين التضامن الإسلامي كبديل إستراتيجي عن الهيمنة الناصرية فنشأت منظمة المؤتمر الإسلامي و مقرها بجدة و كان أمينها العام الذي أعطاها صبغتها الدولية هو الدبلوماسي التونسي الحبيب الشطي رحمه الله و أصبحت منظمة عالمية تجمع اليوم 57 دولة مسلمة و اسمها اليوم (التعاون الإسلامي). لعل التضامن بين الدول المسلمة يوفق في تغيير المعادلة التقليدية التي تفرش هيمنة القوى اللبرالية المتوحشة على الشعوب المستضعفة و ليس من الصدف أن تجد اليوم عام 2019 (73 % من المهجرين تحت الخيام في العالم مسلمين) و أن تجد 84% من بؤر