لقد تابعت تقريبا كلّ مداخلات النواب الجدد وهم يناقشون ميزانيّة 2019 واستمعتُ لحماسهم المفرط في الدفاع عن مشاريع جهاتهم باستماتة منقطعة النظير وكأنّهم يقولون لناخبيهم في الجهات وخاصة لمن لم ينتخبوهم أرأيتم وسمعتم مدى غَيْرتنا على الجهة فهل هنالك مشروع بقيّ معلّقا لم ينجر ولا رغبة من رغباتكم في التنمية وتحسين ظروف الحياة لم ندافع عنها؟ هذه المداخلات وإن هي عاديّة في مناقشة ميزانيّة 2020بالذات من النوّاب الجدد فهي تعتبر جريمة من االنوّاب المخضرمين الذين عادوا إلى المجلس من جديد وانبروا في تعداد المشاريع التي لم تنجز منها أكثر من 35 في المائة والمشاريع التي بقيت حبرا على ورق أو المشاريع التي حوّلت لجهات أخرى- حسب زعمهم- فهؤلاء نقول لهم صحّ النوم بعد فسحة ب5سنوات فَعَلْتم فيها كلّ شيء من زياد في منحكم والتمتّع بالسفرات والتدخّل لأقربائكم وتركيز هُجوماتكم على خصومكم في العديد من المناسبات وأمام كاميراهات التلفزة لتعودوا بعد ذلك لجهاتكم متباهين بدفاعكم عن التنميّة فيها فهل كان هذا الدفاع أمام الكاميرا يتواصل بالمراسلات والتنديدات والتحريض على الوقفات الاحتجاجيّة أي بالمتابعة؟ أم كان مناسبتيّا من نوع "عِندكشْ عندي"؟ وحتّى لا يكون تقيّمي لهؤلاء النواب المخضرمين مجرّد كلام أو تهم سأضرب مثالا عن صحّة ما قلته لذلك سأقف عند المثال الصارخ لإحدى نائبات النهضة التي لم تغب عن المشهد البرلمان منذ 2011 والتي صالتْ وجالتْ من مقعدها تدافع عن أتكون المرأة مكمّلة للرجل وعلى أنّ تكون الشريعة أصل التشريع و على كلّ ما ليس له علاقة بحياة المواطن الذي انتخبها لتقف في أوّل جلسة عامة في المجلس الجدد لتسرد على مسامعنا جملة من النقائص التي تعاني منها جهتها والمشاريع التي لم تنجز رغم أنّها من ضروريات الحيات الكريمة والإهمال الكامل الذي تعاني منها جهتها إلى غير ذلك من الكلام الجميل المنمّق الذي تحمّل فيه المسؤولّة لكلّ المسؤولين ما عدا مسؤول واحد هو في الأصل المسؤول الحققي على هذا الإهمال وهو "حضرة النائبة المحترمة" التي أطلب من المنتسبين لجهتها وخاصة من من انتخبوها منذ المجلس التاسيكي أن يبجثوا كيف دخلتْ لأوّل المجلس وما هي عليه الآن من جميع النواحي؟ وقد تكون هذه النائبة تؤمن بأنّ الصدقة لا تصحّ إلّا بعد أن يشبع أهل الدار" ويبدوا أنّهم لم يشبعوا بعد فهم من أهل هَلْ من مزيد لذلك نراها من جديد؟ وأشباه هذه النائبة من غير الجدد كثيرين ومداولات مناقشة ميزانيّة 2020 التي لم "تناقش" شاهد على ذلك وقبل أن أمرّ للنواب الجدد الذين لي معهم شأن آخر ذكرتني عدم مناقشة ميزانيّة 2019 طرفة كانت بيني وبين المسرحي القدير المرحوم المنصف السويسي الذي كان زميلي في الدراسة وعندما ترأستُ ديوان وزير الثقّافة دار بيننا حديث حول وضعه فقلت له ماذا تريد أكثر ممّا أنتَ عليه فأنت مستشار وزير الثقّافة؟ فأجابني نعم أنا مستشار لكن لا أشار" وها نحن اليوم نعيش في برلمان تناقش فيه الميزانيّة بدون نقاش. ولي مع المنصف السويسي حكايات أخرى سأرويها إن رقدّر الله لي ذلك رحم الله منصف السويسي وأبقى ذكره خالدا بين الأجيال. أعود للنواب الجدد الذين سوف لن أقصُوّا عليهم إذ هم غالبا ما يأتون للمجالس النيابيّة يتّقدون نشاطا ومحمّلين بعزم راسخ أن يقوموا بدورهم ويكونوا على الأقلّ أحسن من سابقيهم في هذا الموقع وقبل مناقشة الميزانيّة لا بدّ أن يكونوا قد تشاوروا مع المواطنين والمنظّمات والجمعيات عن حاجيات المنطقة و يندفعون من هذا الموقع النيابي للتذكير والدفاع بأسلوب غالبا ما يكون مدروسا و حادا ومتشنّجا موجّه في الظاهر للمسؤولين و في الأصل لمتساكني جهتهم فكأنّهم يقول لهم هل قُمْتُ بدوري ووفيتُ بالعهد الذي قطعته على نفسي بالدفاع عن الجهة وهذا أمر منطقي ومقبول في البداية ولا يُلاَمُون عليه. لكن "الدَوام ينقب الرخام"فشعلة الحماس تبدأ في الذبول بما تعيشه النائب والنائبة من رتابة و اللامبالاة من الذين يعلمون مسبّقا أنّ ما يقال شيء وما ينجز شيء آخر عمل بقاعدة فاقد الشيء لا يعطيه وهذا ما ينطبق خاصة على ميزانيّة 2020 فبعد أن تركهم وزير الماليّة يعددون الحاجيات والكماليات ويرفّهون عن أنفسهم بكلام أجابهم عنه بكلام وذلك أضعف الإيمان أمّا الكلام الذي يواجه بالانجازات والأفعال فذلك في ظروف تونس اليوم من المحال. فماذا وقع في هذه الجلسة العامة لمناقشة الميزانيّة التي لم تناقش؟ فقد فَتَشْتُ في أنسب طريق وأقصره لأصف ما دار بين الوزير والنوّاب فلم أجدْ أخْصَر ولا أكثر تعبير ولا أرشق مع سهولة هضمه من تلك الطرفة التي تروى عن جحا حيث لم يجد اللحم على الطاولة وقد اشترى كلغ كاملا وعندما سأل زوجته عنه قالت له:" أكلته القطّة" فأخذ الميزان ووزن القطّ فوجد وزنها كلغ فقال لزوجته إن كانت هذه القطّة فأين اللحم؟ وإن كان هذا اللحم فأين القطّة ؟ فما قاله وزير الماليّة جواب على طلبات النوّاب هو هذا اللحم وهذه هي القطّة وهذا هو النصيب الذي تبقّى لكم من غنيمة ميزانيّة الدولة لذلك لا تضيع وقتنا ووقتكم في النقاش فقد استمعتُ إليكم فقلتم ما أردتم و عرضت عليكم ما عندي و ربّي يفرّج علينا وعليكم على تونس فالحكومة ستعمل بقاعدة على قدر الكساء أمدّ رجلي والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وقد صفّق النواب باحتشام لهذا المقترح وغادروا أماكنهم فرحين مسرورين بمداخلاتهم بدون مناقشة للميزانيّة وهي بدعة تونسيّة العفو و المعذرة أردت أن أقول هي خصوصيّة تونسيّة في هذا العهد الذي تميّزنا فيه على الجميع. فهل معنى هذا أنّ النواب ليس لهم ملاذ آخر لتحقيق رغبات المواطنين؟ الجواب لا بِلْعَكَسِ فالباب الحقيقي مازال مفتوح والنواب هم الذين أخطؤا العنوان فما هو هذا العنوان؟ يجب أن لا ننسى حملة رئيسنا التي بنيت على شعار "الشعب يريد" فما طالب به النواب وهم ينوبون الشعب وما جاء في مداخلاتهم هو ما يريده الشعب لذلك فالنوّاب أخطؤا العنوان وكان عليهم التوجّه لرئيس الجمهوريّة في ما يخصّ الميزانيّة والمشاريع والانجازات والتشغيل والبنية الأساسيّة وقفّة المواطن وظروف الحياة والتشاؤم المسيطر علينا فكلّها من مشمولات الرئيس لأنّها كلّها من ما يريده الشعب الذي صوّت ما يقارب ثلاث ملايّن منه للرئيس لرفعه شعار "الشعب يريد". فكانت إجابة الحكومة بوضوح وبشجاعة كاملة إنّ ما تريدونه هو من مشمولات الرئيس أمّا الحكومة فينطبق عليها جاد الفقير بما يملك أو فاقد الشيء لا يعطيه. لذلك قال لهم وزير الماليّة إنّي أعفيكم من النقاش الذي لا يؤدّي لنتائج وأوفّر عليكم الوقت والجهد لتصرفوه في مناقشة رئيس الجمهوريّة الذي هو أكثر تمثيليّة منكم ومن الحكومة وله حزام شعبي قادر على قلب الموازين.وهو القادر على تحقيق مقولة "الشعب يريد" لأنّها شعار حملته كما هو قادر على إرجاع السكّة من جديد ذلك هو عنوان تونس اليوم فلا تضيّعوا هذا العنوان فتضيع البلاد من بين أيديكم.فتخرجونها عن السكّة ولا يسعني كوزير للماليّة و نيابة عن الحكومة إلّا أن أقول لكم هذا ما عندنا في الميزانيّة أعلمناكم به:" وفّقكم الله ووفّق رئيسنا لما فيه خير تونس وشعبها إنّه على كلّ شيء قدير."