في تاريخ الشعوب الطويل الذي سجل حدوث ثورات هذه الشعوب على حكامها المستبدين والتي قامت بانتفاضات خرجت بها عن سلطة الحكام واسترجعت حريتها وشرعت في رسم ملامح نظام سياسي جديد وبناء جمهوريات اجتماعية تستجيب لطموحات الناس ورغبات الأفراد .. في هذا التاريخ الطويل كثيرا ما تعرف هذه الثورات محاولات للإجهاض عليها من طرف بقايا النظام القديم ومحالات أخرى من طرف الثورة المضادة لإفشالها وكثيرا ما يحدثنا هذا التاريخ عن انحرافات تعرفها هذه الثورات تعترض طريقها نحو التحرر من قيود القديم وعدم القدرة على البناء والتأسيس الجديد .. من هذه الانحرافات مجيء دكتاتور ينهي حالة الثورة ومنها عودة النظام القديم ورموزه ومنها وهو الأخطر أن يعجز من تسلم مقاليد الثورة وأتمن عليها على تحقيق أهدافها و مواصلة الانجاز وأن يشعر الشعب بأن الذين حلوا مكان النظام القديم هم عاجزون عن بناء نظام حكم جديد ودولة جديدة وأن يحصل الانطباع بأن الدولة التي جاءت على انقاض النظام القديم هي عصية عن الحكم ولم تجد من له الكفاءة على تسيير شؤونها. هذا هو الشعور العام اليوم وهذا هو الاحساس الذي نجده عند غالبية الشعب التونسي بعد أن صعب تكوين حكومة تحكم البلاد في الزمن المطلوب ؟ ما حصل اليوم بعد أن تعثر مسار تكوين الحكومة وبعد أن تبعثرت كذلك جميع السيناريوهات الممكنة وخاصة السيناريو الذي يحبذه الكثير من التونسيين وهو تكوين حكومة بالقوى المحسوبة على الثورة ودفع الأحزاب للقطع مع القديم إلى الانضمام إلى الفريق الحكومي الذي يعمل الحبيب الجملي على تشكيله لكن المنعطف الذي حصل واعتبر انحرافا خطيرا تعرفه الثورة التونسية في راهنيتها هو عجز كل من حركة الشعب والتيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة وحركة النهضة على ايجاد أرضية مشتركة على تشكيل حكومة تقطع مع الماضي . إن الانحراف الذي حصل هو تنصل كل من حركة الشعب والتيار الديمقراطي عن المشاركة في الحكم بالرغم من أنهما قد تحصلا على كل ما يريدان من طلبات وبعد أن تحققت لهما أغلب شروطهما وبعد أن منحتهم حركة النهضة ما يريدون لنجد أنفسنا بعد هذا الرفض أمام وضعية سياسية لا نحسد عليها ويجد رئيس الحكومة المكلف نفسه مجبرا على الذهاب إلى سيناريو آخر وخيار مؤلم وهو تشكيل حكومة من خارج كل الاحزاب السياسية واختيار أعضائها من كفاءات وطنية غير متحزبة ولكن حتى هذا الخيار قد وجد الكثير من الصعوبات والعراقيل حيث ما إن أعلن الحبيب الجملي عن تشكيل حكومته حتى بدأ النقد والتشكيك في أفرادها وكثر االتجريح في الأسماء المقترحة وزادت المنابر الحوارية في الإذاعات والتلفزات من هذا التشكيك والقدح واتسعت وتيرة الترذيل بفتح نقاش حول معنى الكفاءة وكيف ومن يحددها ؟ ونقاش آخر حول التحزب ومن هو المتحزب ؟ ومن هو دون ذلك ؟ وهل يعد الشخص غير المنخرط في حزب ما ولكن له ميول أو هو قريب من حزب معين ، هل يعد متحزبا ؟ ومن هنا بدأنا نحاسب على النوايا حتى أوصلنا هذا الخطاب وهذا التحليل الذي نسمعه في وسائل إعلامنا إلى التفتيش في ضمائر الأشخاص المقترحة لتشكيل الحكومة الجديدة حتى استمعنا إلى من يطالب بعدم التصويت لها لأن أفرادها لهم ميولات قريبة من حركة النهضة ومن حزب قلب تونس بالرغم من أنه لم يثبت لهم أي انخراط أو انتماء رسمي في أحد هاذين الحزبين . ما هي نتيجة هذا الكلام الذي نقوله ؟ وما هي انعكاسات هذا التحليل الذي ظهر في الآونة الاخيرة في مختلف وسائل إعلامنا ؟ في الحقيقة فإن النتيجة الوحيدة لكل ذلك هو أن كل شخص يقترح للانضمام إلى الحكومة إلا ويتم القدح فيه بصورة من الصور وتوضع له شتى التهم حتى يتم التخلي عنه لنجد أنفسنا أمام شعب مورط بأكمله في الفساد وجميعه غير مؤهل للحكم وغير مقبول به. والنتيجة الأخرى التي ننتهي إليها من وراء هذا الكلام هو أن البلاد سوف تجد نفسها عاجزة عن تقديم أشخاص يقبل بهم الجميع وأفراد حولهم إجماع ورضى وهذا هو الانحراف الخطير الذي تعرفه الثورات حينما يدخل من قام بها في حالة من الشك المتبادل وحالة من عدم القبول بالآخر وحالة من العجز عن ايجاد صيغة للتوافق على الحكم . إن الانحراف الخطير جراء هذا الوضع أن يشعر الناس أن الثورة قد انتجت أشخاصا يحملون همها غير أنهم بتعنتهم قد جعلوها عصية عن الحكم وحينما تصبح البلاد عصية عن التسيير نتيجة فشل أبنائها في إدارتها وفي تشكيل حكومة بكل سهولة حينها نكون في وضعية الانحراف المؤدي إلى عواقب خطيرة أقلها قيام ثورة أخرى لإنهاء حالة الفوضى ووضع اللامسؤولية.