يوم 10 جانفي 2020 سوف يبقى يوما فارقا في تاريخ تونس المعاصر وعلامة مضيئة في المشهد الحزبي والحياة السياسية التونسية في زمن ما بعد الثورة على أن حكومة تم اسقاطها ولم تحظ بثقة في مجلس نواب الشعب بطريق التصويت الديمقراطي وبعد حوار ونقاش ومساءلة دامت يوما كاملا بقى الشعب إلى ساعة متأخرة من الليل ينتظر نتيجة التصويت حول منح الثقة للحكومة من عدمها من دون أن يعرف هل تحصل حكومة السيد الحبيب الجملي على الثقة وتمر إلى العمل أم لا ؟ فكل ما قيل ويقال عن فشل حركة النهضة في تشكيل الحكومة بعد أن فوضها رئيس الدولة قيس سعيد بتشكيلها باعتبارها الحزب الفائز في الانتخابات الذي يمنحه الدستور حق اختيار شخصية لهذه المهمة وبقطع النظر عن فشل الأحزاب المحسوبة على منظومة الثورة وتحديدا حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب في الانضمام إلى الفريق الحكومي بعد أن كل ما قيل عن حصولهما على ما يريدان من مطالب وبعد أن استجابت حركة النهضة إلى شروطهما وخاصة شروط التيار الديمقراطي بخصوص حصوله على ثلاثة حقائب وزارية وهي مسألة سوف تبقى من مشمولات المؤرخين ليتناولونها بالدراسة والتحليل والفهم. وبقطع النظر عن كل السيناريوهات الممكنة لتشكيل الحكومة في علاقة بتشتت المشهد الحزبي في البرلمان الذي لا يسمح لأي حزب سياسي من تشكيل حكومة بمفرده وصعوبة التوافق بين الكتل البرلمانية حول صيغة ممكنة لتشكيل فريق حكومي يستجيب لطموحات الشعب وبقطع النظر عن كل ما يقال حول نفسية الفرد التونسي المتعبة من جراء طول انتظار تشكيل الحكومة ومرور أكثر من شهرين من دون أن يتفق الجميع على صيغة للتوافق وبقطع النظر عن الوضع الاقتصادي السيئ الذي لا يسمح بمزيد إضاعة الوقت حول حكومة توافقية وبقطع النظر عن فشل الجميع ودون استثناء أحزاب حكم وأحزاب معارضة وبقطع النظر عن التحالفات التي حصلت في الساعات الاخيرة قبل عملية التصويت لمنح الثقة وصفقات البيع والشراء لحمل البعض على التصويت أو عدم التصويت لحكومة السيد الحبيب الجملي وبقطع النظر عن كل ما قيل حول شخصية هذا الأخير وفريقه الحكومي من حيث كفاءة أو عدم كفاءة أفراده . وبقطع النظر عن كل ما يقال اليوم بعد أن صوت غالبية النواب في مجلس نواب الشعب ضد منح الثقة لحكومة السيد الحبيب الجملي وبالتالي فشل حركة النهضة في تشكيل الحكومة في الآجال الدستورية الممنوحة لها وبقطع النظر عن التخوفات التي يبديها البعض وهم على حق في ذلك من الفرضيات الممكنة بعد أن سقطت الحكومة وخاصة فرضية تشكيل حكومة جديدة بعد أن يتولى رئيس الجمهورية هو بنفسه اختيار شخصية وطنية يفوض لها صلاحية القيام بهذه المهمة ولا تحضى هي الأخرى بثقة البرلمان بعد أن يعاد سيناريو التجريح والتشكيك والقدح في الفريق الحكومي تحت أي ذريعة من الذرائع وهذا وارد خاصة في ظل تصاعد وتيرة الخلافات بين الاحزاب . وبقطع النظر عن كل ذلك ورغم كل ما يقال عن صعوبة المرحلة القادمة وغموضها وضبابيتها فإن الذي حصل ليلة السبت 10 جانفي الحالي كان أمرا مهما للغاية وعلامة فارقة في تاريخ الحياة السياسية في تونس ولربما حتى في العالم العربي وما حصل في قبة البرلمان لم يكن مسألة عادية وإنما الذي حصل يضاف الى كل الانجازات الديمقراطية التي حققتها تونس وهي تخطو خطواتها الثابتة بكثير من التعب والمشقة نحو ترسيخ حياة ديمقراطية وتثبيت دعائم وركائز تقاليد ديمقراطية حقيقية سوف تكون لها تداعيات إجابية على الوضع بالبلاد وعلى المشهد السياسي فما حصل هو أنه لأول مرة في تاريخ تونس المعاصر يتم اسقاط حكومة ولا تمنح الثقة لها بطريق ديمقراطي راق جدا وبأسلوب حضاري ومدني غير مسبوق في المنطقة العربية ومن دون اللجوء إلى العنف أو الانقلاب أو التحايل السياسي فما حصل على مرارته عند البعض وعلى كونه يمثل خيبة للبعض الآخر فإنه يعتبر مفخرة للتجربة الديمقراطية في تونس فليس كل يوم نسمع عن حكومة في الوطن العربي والعالم الاسلامي يتم تشكيلها ولكنها تسقط ولا تنال الثقة من خلال التصويت الديمقراطي في البرلمان وليس معهودا أن تسحب الثقة من حكومة عربية من دون تدخل من السلطة الرئاسية ومن دون فرض من رئيس الدولة . من أجل ذلك فإن حدث عدم التصويت على منح الثقة لحكومة السيد الحبيب الجملي وجب أن يقرأ على أنه مكسب حققته الديمقراطية في تونس بدل أن يعتبر فشلا وخيبة .. فاليوم تكتب الديمقراطية في تونس بعد حدث عدم منح الثقة لحكومة الحبيب الجملي فصلا جديدا في سجل كتاب تاريخ تونس المعاصر .