شخصيا لا أقدر على السباحة في الكلام المنمق و الألفاظ الرنانة لكلّ ما حاط بالثورة منذ انطلاقها بعفوية الشعب البسيط إلى يوم انزلاقها و الركوب على ظهرها مثل الدابة و استعمالها استعمالا سياسويا بائسا تجاوز المواطن البسيط و هو الفاعل الأصلي فيها و مصدرها حين كان البعض ممن ركب عليها اليوم لا تعنيه البلاد لا من بعيد و لا من قريب و لكن استغل هذه العفوية و جعل منها مطية لتحقيق أهداف لا تمت بالأهداف التي نادى بها المواطن العادي من " شغل و حرّية و كرامة وطنية " زمن انطلاقها؟ و حتّى أبقى في دائرة عفوية الثورة التونسية أذكر مما أذكره في الأيام الأولى للثورة بعض المحطات الجميلة منها، رغم النيران المنتشرة هنا و هنالك و رغم استغلال بعض الخارجين عن القانون الفرصة لترويع الناس و رغم التهويل الذي سادها عبر وسائط التواصل الاجتماعي أذكر فيما أذكره : *تلك اللحمة الشعبية التي سادت العلاقات بين المواطنين بمختلف شرائحهم و كيف وقف الجميع في كل حي و في كلّ حومة و في زنقة في شكل لجان أحياء للدفاع عن ممتلكات بعضهم البعض. فتجد المهندس إلى جانب عامل البناء و تجد الطبيب في تناغم تام مع الفلاح و تجد الموظف و الإطار وقد ترك جانبا البروتوكولات الإدارية الزائفة و كان قاسمهم المشترك حماية الحي و ممتلكات سكان الحي و الدفاع عنه من صولة السراق و المارقين عن القانون و كان كل ذلك بوسائل بدائية لا تتعدى العصي و لكن بإرادة صادقة بعيدا عن النفاق و روح الخيانة. * أيضا لا أنسى مؤازرة حرائر تونس في وقوفهن إلى جانب الرّجال المستعدين لحماية الكل رغم برد الشتاء، من اعداد الأطباق التي كانت تصنفها و ترسلها لأسود تونس و قد تنوعت من الأكل إلى المشروبات و الغلال و الحلويات - و كأنّ كلّ قطعة و كلّ صحن و كلّ فنجان قهوة و شاي - يقول للرجال ، الواقفين وقفة الرجل الواحد للذود عن حرمة الحي و من ورائها حرمة البلاد و العباد في كلّ أرجاء الوطن، لستم وحدكم فنحن نساء تونس معكم و نشد على أزركم فلا تخشوا و إن لزم الأمر سننزل الساحة معكم... *ممّا علق ببالي و قد عاينت ذلك بأمّ عيني كما يقال كيف، في تلك الفترة، قدمت مجموعة مع قدوم المساء، و كانت تقريبا تلبس لباسا مدنيا متشابها، و اجتاحت أحد المقرات لمؤسسة عمومية و كان بها العديد من السيارات الإدارية و الشاحنات و الآليات الثقيلة ، و كيف بقوارير المولوتوف أشعلوا كل تلك السيارات و الآليات و رجعوا من حيث قدموا لتأتي مجموعة ثانية و تبدأ في سرقة ما تبقى من هذه الآليات و السيارات و أذكر وقتها أنّي كنت أراقب كلّ ذلك من سطح مقر سكناي بل أضيف و أنّ سيارتي كانت ضمن هذه السيارات التي تمّ حرقها. *و لا أنسى كذلك كيف غامرت للتنقل ليلا من تونس إلى بنزرت لأجري حوارا شاملا مع المناضل عم علي بن سالم – بعد أن تمّ تكليفي بذلك لفائدة جريدة الصريح - و لا أدري من أين استقيت تلك الشجاعة لأقبل بتلك المهمة الصعبة حتى لا أقول المستحيلة باعتبار خطر الطريق ومفاجآته و بالفعل توجهت إلى بنزرت مع المساء و أجريت الحوار و عدت مع منصف الليل في اتجاه تونس و بدون أن أقف على بعض التفاصيل أذكر فقط كيف غامرت و اجتحت بالسيارة بعد العجلات المشتعلة في بعض الطرقات و كيف تمّ ايقافي في نقطة تفتيش تابعة للحرس الوطني و لكن ما ان توقفت حتى تبيّن لي و أن بها عش دبابير من الصعاليك و من ألطاف الله أنّي نجوت بأعجوبة. و لكن بعد 9 سنوات من الثورة التي بدأت عفوية و نظيفة رغم كل النيران و التجاوزات لنصل إلى ما وصلنا إليه من انزلاقات خطيرة و لعلّ أهمّها انقسام الشعب إلى تكتلات و محاور و دكاكين سياسية و كيف برز من بيننا من لا يؤمن لا بالعلم و لا بالوطن بل حادثة كلية منوبة و رفع تلك الخرقة السوداء.