يسارع الناس إلى بيوتهم قبل أن ينسدل الظلام على المدن والأرياف ، خوفا من الهجومات المسلحة المتكاثرة (braquage)إلى حد بث الرعب في البلاد ، وهي هجومات للحقيقة لم تقتصر على الليل ولا على الشوارع الخلفية، بل باتت تتجرأ على الشوارع الرئيسية والطرقات العامة بين القرى والمدن، وأصبح الناس في خوف لا على تليفوناتهم أو ساعاتهم أو على القليل من المال الذي يقدر لهم أن يحملوه معهم لكل طارئ، هذا إذا أفلتت سلامتهم الجسدية من كل سوء ، بل إن الأمر تطور إلى حد دخول المهاجمين المسلحين إلى محلات الحلاقة ، فضلا عن صعود وسائل النقل وترويع ركابها، وسلبهم ما خف حمله وما غلا ثمنه ، والأخطر هو الاختلاء ببعض السيدات المحصنات، أو الفتيات الأبكار، واغتصابهن في أماكن الخلاء التي تتم قيادتهن إليها ، دون أن يتجرأن بالتصريح عن ذلك خوفا من "الفضيحة". ويتساءل الناس : لماذا أصبحنا نعيش هذا الكابوس ، وكيف تحولت عاصمتنا الجميلة ومدننا الصغيرة والكبيرة إلى بؤر إجرام مبيت وبسابق إضمار. إن على علماء السوسيولوجيا ، أن ينكبوا على هذه الظواهر ، التي اعتقدنا أنها طارئة، وأصبحنا لتكرارها اليومي هنا وهناك، نشعر بأنها باتت جزء من حياتنا اليومية ، " ولا حد خير من حد"، فكلنا معرضون لمثل هذه الجرائم، ومن أفلت اليوم لا يمكن أن يطمئن إلى أنه سيفلت غدا أو بعد غد ، ويقول لي تاجر إليكترونيك : إن الطلب تكاثر بصورة كبيرة، على التليفونات من صنف 50 دينارا ، التي لا يطمع فيها المسلحون ، وكفت كثيرات من السيدات على حمل حقائب يدوية، أو أي شيء من الحلي، حتى المزيفة، بل وأكثر من ذلك نزعن الاقراط من آذانهن، ولم يعدن يلبسن ما غلى أو حتى قل ثمنه من الحلي ، الذي كلفهن في بعض الأحيان ثروات طائلة، أو الفراء وحتى في الأعراس . على أن لكل أن يدلي بدلوه لتفسير هذه الظاهرة، التي تعاظمت في الأشهر الأخيرة بعد أن كانت محدودة . ولنا تفسير قد يراه البعض صائبا، ويراه البعض خاطئا، إننا نعيش في بلد غير محكوم، وليس الحكم، مظهرا لشرطة أو حرس بل اطمئنان في القلوب ، وهو أمر لم يعد متوفرا في بلادنا وأسباب ذلك متعددة : 1/ مظاهر الفقر المدقع السائد والذي لا تؤكده الإحصائيات والبيانات الرسمية وغير الرسمية فقط، بل مظاهر معاينة واضحة، تتمثل في هؤلاء الذين ينبشون في المزابل، والذين لم يعودوا يجدون ما يسترهم حتى في "الفريب" ، الذي غلا ثمنه ككل شيء في البلاد، فاللحم لم يعد مادة في المتناول حتى لمن كانوا يصفون أنفسهم بأنهم من الطبقة الوسطى ، بعد أن تضاعف ثمنه مرتين في أقل من عشر سنوات. 2/ غياب الوازع الاخلاقي ، وحتى الديني رغم امتلاء الجوامع والمساجد بالمصلين، ناهيك وأن سرقة الأحذية باتت رياضة وطنية شديدة الانتشار. 3/ الإحساس بغياب العقاب الرادع، بل والتراخي في محاسبة المذنبين ، إذا حصل وسقطوا في الفخ. كل ذلك ينبئ بأمر خطير هو غياب الدولة، لا فقط بأجهزتها، ولكن أيضا بسطوتها وما تفرضه من احترام، ناهيك وأننا نعيش منذ شهر جويلية، في فراغ مؤسساتي خطير، فالحكم هو حكم تصريف أعمال ، بحكومة نصفها بوزراء نواب، لا يعرفون متى سيقع صرفهم فلا هم في العير ولا في النفير. وحتى الانتخابات لم تفرز أحدا يقدم على استلام الحكم، فكل حزب يقذف بجمرة الحكم للآخرين مهما كان موقعه في المجلس، وكل حزب بما لديهم فرحون، بما أنهم أن لا أحد منهم استلم "جمرة " السلطة بكل تحدياتها، بعد مرور تسع سنوات من العبث، شاركت فيها طبقة سياسية أقل همها هو مصلحة الوطن. والحكم هو ثقة الناس في مستقبلهم، ومستقبل أبنائهم ، وهو الذي يصنع الاستقرار، في وقت لو وجد فيه نصف التونسيين سبيلا لمغادرة البلاد نهائيا أقبلوا على ذلك بطيب خاطر بل بحماس تاركين أهل البلاء للبلاء. وإزاء وضع هذه الحال، فالسلطة ملقاة على قارعة الطريق ولا أحد يريد أن يلتقطها كما قال لي بالأمس، الأستاذ الكبير الطاهر بوسمة ، الذي خبر السلطة بمختلف أوجهها، وخبر المجتمع المدني ، وحتى الوزير الأول المعين.