بداية من تاريخ قيام الثورة في سنة 2011 وحتى سنة 2018 هاجر إلى الخارج وتحديدا إلى دول أوروبا الغربية ودول الخليج ودولة كندا حوالي 94 ألف من الإطارات والكفاءات المهنية موزعين بين كبار الإداريين والمعلمين والأساتذة الجامعيين والمهندسين والأطباء والأخصائيين في الكومبيوتر والصيادلة وقد بلغ عددهم الجملي حوالي 60 ألف مهاجر كل هذه الكفاءات والخبرات التي تركت البلاد كان سعيها البحث عن وضع إجتماعي أفضل وفرص عمل وتشغيل لم تعد متوفرة بعد أن انحسرت في تونس وتراجعت امكانيات امتصاص تفاقم بطالة خريجي الجامعات والكفاءات العلمية غير أن الجديد في هذه الموجة من الهجرة التي تفاقمت بعد الثورة وأصبحت تشكل ظاهرة بارزة تقلق الجميع رغم أنها قديمة وليست من مخلفات الثورة هو أن الكثير من أصحاب الكفاءات من الذين قرروا الهجرة والاستقرار في البلدان الأجنبية لم يكن الدافع وراء هجرتهم الكسب المادي فحسب ولو أنه كان مؤثرا بقدر كبير في قرار الهجرة وإنما الدافع المباشر كان البحث عن جودة الحياة وعن وضع اجتماعي أفضل وكان مطالبة الدولة بتوفير رؤية واضحة للحياة وتوفير جودة في الخدمات العامة فما يلاحظ اليوم هو أنه أصبحت لدينا فئة من الجامعيين والكفاءات وأصحاب الخبرات تطالب بحياة أفضل و بمكانة معتبرة وبظروف عمل أفضل خاصة بالنسبة للذين يحتاجون إلى القيام باختبارات وأبحاث في مراكز بحث متخصصة غير أن جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية تفتقدها. اليوم لدينا فئة من الكوادر الإدارية والخبرات العلمية تريد حياة أفضل وظروف عمل تشبه ما هو موجود في دول ما وراء البحار ولم تعد تقبل أن تعمل في مثل الظروف التي توفرها بلادنا .. اليوم لم يعد ممكنا مع هذا الجيل الجديد من الجامعيين ومع هذه الإطارات التي زارت الدول الغربية و اطلعت على ظروف العمل فيها أن نقنعهم بالبقاء في تونس والعمل بإمكانيات متواضعة وبظروف عمل متدنية . اليوم أصبح لدينا جيل بأكمله يطالب الدولة أن توفر له إمكانيات تسمح لهم بالبقاء في أرض الوطن وجيل يبحث عن جودة الحياة وهو مستعد لدفع الضرائب والعمل في مؤسسات الدولة مقابل توفير خدمات جيدة وتوفير حياة عصرية والارتقاء بالمؤسسات العلمية والإدارية إلى مصاف ما هو موجود في دول الغرب . ما يعيبه الكثير من المتعلمين التونسيين على الدولة هو أنها لا تهتم بأنبائها ولا ترافق شبابها ولا تصاحب كفاءاتها التي استثمرت فيهم ولكنهم لم يفيدوا البلاد ولم يستفد منهم المجتمع وفي المقابل استفادت منهم دول أخرى من دون تعب .. ما يعاب على الحكومات المتعاقبة هو هدرها لأموال طائلة في بناء المدارس والجامعات والكليات وتسخير المعلمين والأساتذة في التعليم في كل مستوياته ورصد ميزانيات لتوفير النقل والأكلة المدرسية والجامعية ليستفيد في النهاية من كل هذا الجهد ومن أبنائنا المتفوقين غيرنا ونجد كفاءتنا التي كونتهم الدولة في مراكز القرار وفي الصفوف المتقدمة في المؤسسات الأجنبية وكأن الذي يحصل هو أننا بلد دوره إنتاج الكفاءات والخبرات العلمية لغيرنا من الدول التي تستفيد من كل العقول التي تصنعها المدرسة والجامعة التونسية. إن المشكل الكبير في موضوع هجرة الكفاءات أو ما اصطلح علي تسميته بهجرة العقول أو الأدمغة هو أن الطلبة الذين يهاجرون إلى بلدان الغرب للدراسة لا يقع تتبعهم من طرف الدولة التونسية ولا يجدون من يسأل عنهم ليجد هؤلاء الشباب أنفسهم مضطرين للاستقرار في بلد الاستقبال الذي يوفر لهم ما لم يوفره لهم بلد المنشأ وخاصة ما يجدونه من جودة للحياة ومن جودة للخدمات وما يتوفر لهم من مخابر للبحث لإكمال أبحاثهم وتحقيق أحلامهم فما يجده الفرد التونسي خارج وطنه يشجعه على الاستقرار هناك وعلى العمل في بلد الغربة ما يجده من احترام وتقدير وآفاق كبيرة للتطور وتطوير القدرات والمكتسبات يدفع كفاءاتنا إلى الهجرة واتخاذ قرار عدم العودة . ما أردنا قوله هو أن ظاهرة هجرة الكفاءات التونسية إلى العديد من البلدان هي ظاهرة تعرف اليوم تحولات كبرى في مساراتها ومآلاتها وهي ظاهرة تفاقمت بقدر كبير بعد الثورة ومعها تغيرت النظرة للهجرة التي باتت اليوم تحصل تحت وقع البحث عن حياة أفضل وتبحث عن جودة للحياة مفقودة وترنو إلى العيش وفق نمط عيش الأوروبيين والغربيين وعلى النموذج الغربي للحياة وعلى طريقة العيش الأوروبية.. إنهم يريدون أن تتوفر لهم امكانيات وطريقة عيش الغربيين .