كانت هدية ما يزعم ب"شباب الثورة"، الى النهضة وحلفائها في الحكم آنذاك، الخلط بين مناضلي الحزب الاشتراكي الدستوري والتجمعيين- دعائم الانقلاب الطبي- يرمون من وراء ذلك، تيسير عملية منع الحزبين من ممارسة الشأن العام، او تقلد مناصب هامة في الدولة، وكانت الخطة ناجحة اذ اقصوا نهائيا الحزب الاشتراكي الدستوري، الذي بوحي من الزعيم الحبيب بورقيبة، وباختياره لمحمد الصياح- طاب ثراه- كمدير له، اصبح مثالا في التسيير والتكوين، شهد له بذلك كل الاحزاب والمنظمات التي شاركت في "ندوة الاحزاب والمنظمات الإفريقية" التي اقيمت بتونس، من واحد الى 6 جويلية 1975، وذلك التشويش المقصود مكن جماعة الانقلاب الطبي من قبل، الاستيلاء على الساحة السياسية، والتصرف فيها لقضاء شؤونهم، ثم تلتهم بعد الثورة، فرق المراهقة السياسية، وعدم الكفاءة، وقلة التجربة في الحكم، فبمر الزمن ها هم يجنون زرعهم، ويدفعون، رغم الخطاب الشعبوي التعبوي لمشاعر الناس، ثمن النفق المظلم الذي دخلت فيه البلاد، التي انتشر فيها الفساد، ونمى فيها الاقتصاد الموازي، من جراء سياسة "خلق المشكل وايجاد الحل"، ولمزيد معرفة الوضع ودقته، وجب الرجوع الى التقرير الذي قدمه محافظ البنك المركزي اخيرا للنواب، فهو يعطي صورة لا غبار عليها على ما وصلت اليه البلاد خاصة في اتخاذ التداين المفرط كوسيلة للتنمية، وهو اختيار غير صحيح، ومرفوض من اهل علم الاقتصاد والمختصون فيه جاءت اذا تجربة الافلاس، و حان وقت رحيل الانتهازيين، الذين فوتوا فرصة لعرض حلولهم، وانقاذ البلاد مما هي عليه، واتت الانتخابات كمعيار لأدائهم، فرفضت احزابهم، ولم تختر تمثيلهم من جديد بأعداد وفيرة، ورمت ببعضها للنسيان، وحتى الذوبان في مزابل التاريخ، و يأتي الحكم قاسيا من جديد من المؤسسات المالية، الممولة للمشاريع، لأن من حكموا البلاد لم يتخذوا الاجراءات الكفيلة الضرورية بإعادة الدورة الاقتصادية الى مجراها الطبيعي، و توالت تقاريرهم تنذر بالويلات، ففي التقرير الأخير لعام 2019، ينشر البنك الدولي بعنوان "تسريع الحد من الفقر في افريقيا"، ان تونس تحتل، في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، المرتبة السادسة في الترتيب بعد العراق مباشرة، ويُظهر المعدل المحزن ل 15.2٪ من المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر بين إجمالي السكان مقارنةً ب 3٪ الذين تم قبولهم كخط فقر عالمي"، ويذكر التقرير بما اوردته وحدة بحثية من المعهد العالي للعلوم الاقتصادية والتجارية في تونس، في دراسة اجرتها العام الماضي، تخص خريطة متعددة الأبعاد للفقر في تونس، وتأثيرها، على المتغيرات المرتبطة بمؤشرات التنمية البشرية، كانت من نتائجها "أن عدد التونسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر يقدر بنحو مليوني شخص، ولا سيما في محافظات الشمال الغربي والوسط والجنوب الغربي يبلغ عدد الأسر التي يكسب أفرادها أقل من 1450 دينار في السنة للشخص الواحد حوالي 412.000 عائلة"، وتوضح خريطة الفقر التي أعدتها الدراسة أيضًا أن المنطقة الغربية هي المنطقة الأكثر تضررا حيث يتجاوز معدل الفقر فيها 45٪ في معظم المعتمديات..."ومن خلاصة الدراسة "أن ضعف الاستثمار العام في الصحة والتعليم والبرامج الاجتماعية الأخرى يؤدي، إلى حد كبير، إلى زيادة مستمرة وسريعة في الفقراء، لا سيما وأن الحلول المقترحة لعلاج هذه الآفة، الفقر في تونس، غير مناسب ولا يمكنه حل الأسباب الجذرية مثل عدم تكافؤ الفرص أو التوزيع غير العادل للثروة المتراكمة والنمو". تلك هي مقتطفات من التقرير أوردناها للفت الانتباه، وللمزيد من التدقيق والبحث وجب الرجوع الى النص الاصلي، وقد تطابقت التوصيات لما نشرناه ب"جريدة الصريح اونلاين " اعتمادا على احصائيات المعهد الوطني للإحصاء. واما مسار الفريق الحكومي لا احد يعبر اليوم عن رضاه لأدائه المسؤولية، فهو متشبث بكرسي الحكم، والادعاء بانه الحل، وهو في الحقيقة المشكل، يترصد الفوز بالغنيمة المنتظرة، ولو كان ذلك كذا لك، لما كان التهافت على المناصب، كما نشهده منذ السنوات الاخيرة، وقد اضر هذا التشبث، ورمى بالبلاد في المجهول أكثر فأكثر، و دفع بها الى الحضيض، فهوى نجمها، وتبعثرت قواها في القيل والقال، بدون جدوى، علاوة على ما تأتينا به الصحافة بأنواعها بالجديد، وهي أحزاب ومنظمات وجمعيات مدنية، وحتى أفراد، كلها تدعي الاستقلالية والغريب في الامر الاستقلالية من ماذا ومن من؟ يا حبذا لو كانت من المال الفاسد، الذي أغرق بلادنا، ولم تستطع مؤسساتنا الدستورية التصدي الى تدفقه، لوبيات تعمل في الخفاء، تتطفل على الشعب، وتستعمل امواله للإغراء، وقد أفرغت موازينه، ولا تزال تطالب بالمزيد، وما كان لهؤلاء دور في تحرير البلاد، ولا بناء الدولة العصرية، بل تنصبوا في العالم العربي في خيام دعوية، وفي اطار فكر ظلامي، دفع بالأمة الى المجهول، فانعدمت الأخلاق، واغلقت سبل الرقي والتقدم في وجهها، ودارت الرحاء على أهلها، وظهرت فقاقيع عاشت تحت غطاء الغرب او الشرق، واعانتها المعنوية والمادية، ثم القي بها في تاريخ تونس، للتطاول عليه، والتلاعب بمستنداته، حتى تسويقه الى الخارج كما ذكره البعض، كل ذلك ابان نخوة الثورة، وبالرجوع الى الوراء، شاءت الاقدار ان يتداول على حكم تونس، من الذين كانوا "انصر اخاك ظالما او مظلوما والمكافأة تأتي"، شريطة الالتزام، وويل للناقد، او للمتظاهر بالعداوة، فالعدالة أعدوها، مكيفة لذلك، و هي الحصن الحصين الذي انجز عن تؤدة، وحسب ما يقتضيه الحزب الفائز، الذي كانت له الغلبة الحينية، والتي جرته الى الاحتماء بمن ليس لهم تاريخ يذكر، او تفكير ايجابي تردده الالسن، فطغت الهستيرية السياسية على المشهد، متمثلة في عدد الجمعيات وخطورتها لعدم مطابقتها قوانينها الداخلية، وعدم البوح بمداخلها الحقيقية، وفقدان الرقابة الدقيقة من الهياكل المختصة. لكن رغم كل ذلك، لو اخذنا طريقة اخرى، وهي كما اكدناه مرارا، بعث فريق وزاري يعلن الرجوع الى الوظيفة الأصلية، بعد انتهاء التكليف بالمهمة، بدون الحصول على الفوائد المنجرة، يكون بعيدا عن الاحزاب من اجل مرحلة انقاذ، قليل العدد لا يتجاوز العشرين، همه البحث عن التوازنات الاقتصادية، مع مراعاة مقتضيات الحياة المعيشية، وما تطلبه من حقوق وواجبات، من شواغله اعادة الادارة الى تحييدها، والدخول حالا في مفاوضات مع المنظمات القومية، لعقد مشترك محدود في صلاحيته، يعيد تكوين جبهة داخلية، تحافظ على السلم الاجتماعية، و تكون كالبنيان المرصوص للتصدي للإرهاب، و لكل من يريد المس بحرية البلاد وتاريخها، وتقرير مصيرها، و يعمل الفريق بمؤازرة الاحزاب على انقاض البلاد من الوحل التي هي فيه، ولعمري أن الدعوة "لمصالحة تاريخية" يقودها حزب الاغلبية تؤدي به حتما إلى الوفاق الوطني، والمشاركة في الإصلاح الجماعي لمن يريد الخير للبلاد، حتى تواصل نهضتها، وتواكب عصرها، وتحقق أهداف ثورتها.