ما أكثر المجلات والصحف والقنوات الأمريكية والأوروبية التي كرست للكورونا وتأثيراتها العميقة على الحضارة وعلى النظام العالمي القديم برامج وملاحق وندوات فكرية حول توقعات العام الراهن الذي يضع أقدامنا بقوة و ثقة على طريق القرن الحادي و العشرين و يعزز شعورنا بأن القرن العشرين الذي عاشرناه و عاشرنا بدأ يتوارى كالشبح البعيد في مسيرة التاريخ و في أجندة أعمارنا بخيره وشره و نعمائه و بأسائه. و لعل أبرز المجلات التي جاءت توقعاتها في شكل تحليلات رصينة هي ( الأيكونومست) البريطانية و ( كوريير أنترناسيونال) الفرنسية و (واشنطن بوست الأمريكية) و أغلب القنوات السياسية و الثقافية الغربية الحرة و منها اخترت لقرائي العرب باقة من الهواجس و التخوفات و أيضا من الأمال و التمنيات التي عبرت عنها نخبة من مشاهير رجال الدول و أصحاب القرار و أقطاب الرأي و صناع الحدث والمحللين العالميين. و قد أوجز رئيس تحرير المجلة الفرنسية هذه التحليلات في افتتاحية بعنوان " سنة كل المخاطر" جاء فيها بأن الشر و الخير أمران محتملان خلال العام الراهن وبدأ الكاتب بعرض مسلسل الرعب الذي يمكن أن ينطلق حسب تقديره من عجز كل الأمم عن مقاومة ناجعة لوباء الكورونا مما يؤكد أن ما وصلت اليه البشرية من تقدم علمي و طبي لم يمنع عنها تفشي الوباء القاتل و لا حتى استشرافه قبل انتشاره و لا طبعا إيجاد حلول لمحاصرته بل سيكون الثمن هو الانهيار المدوي لمنظومة الليبرالية المتوحشة التي فرضها الغرب المسيحي على أمم العالم قهرا و بهتانا! و يرى هؤلاء القادة أيضا أن الشرق الأوسط ما يزال بؤرة السباق المجنون بين أصحاب الحق و أصحاب الباطل فالقضية الفلسطينية مهددة بالتصفية عبر ما يسمى صفقة القرن و انضمت لها حكومات عميلة هشة حيث يعتقد المحللون بأن انقسام فلسطين الى شق مقاوم و شق ملائم للخطة الأمريكية من شأنه أن يسقط جهود القانون الدولي في الماء و أن يعزز التخوفات من تواصل القاء الصواريخ على المستوطنات و تواصل الاغتيالات و التوغلات الاسرائيلية و بالتالي يتحول الشرق الأوسط الى بؤرة صراع طويل لن تنفع معه حلول التنازل و التفاوض لأن سوريا و العراق و اليمن و لبنان و ليبيا لم تخرج من عنق زجاجة الحروب و الاستبداد و الطائفية و المذهبية. وهنا يؤكد الكاتب بأن مواقف الانحياز المهين لليمين الإسرائيلي الذي يعبر عنه يوميا الرئيس ترامب هذه الأيام قد تكون للتسويق الأمريكي الداخلي ولرفع الملامة عن نفسه قبل مغادرة البيت الأبيض نهائيا بعد ستة أشهر دون الطمع في ولاية ثانية. فالرئيس الأمريكي السابق أوباما وعد أن تنشأ دولة فلسطين قبل نهاية ولايته ولكنه لم يقم بما يلزم للضغط على الحليف الاسرائيلي لانجاز هذا الوعد. فالمستوطنات تتمدد كالسرطان المستشري والجدار الممنوع دوليا وأمميا يواصل ارتفاعه ليقسم أرض فلسطين الى كنتونات مستحيلة الجمع في دولة وكذلك الاعتداءات والاغتيالات التي تتم يوميا فيما يشبه عمليات الابادة البطيئة بلا رادع! فأين اسرائيل من خارطة الطريق وأينها حتى من وعود أوباما التي مسحها تحرك (جاريد كوشنير) من أجل خلق إسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات؟ و من جهة أخرى يرى كاتب الافتتاحية بأن الملف الايراني محفوف بالمخاطر مع اعتقاد الادارة الأمريكية بأن الحل العسكري ما يزال قائما لا لأنه حل أمريكي بل لأنه خطة ناتنياهو المعلنة و العالم يدرك أن إيران ليست العراق التي دمرت طائرات إسرائيل مفاعلها النووي الجنين في مهده قبل الإطاحة بصدام حسين بحجج واهية كاذبة و الحال أن الشعوب الشرقية مسلمة و مسيحية سنية أو شيعية تتطلع الى مستقبل سلمي و تعايش عربي فارسي مستديم وقائم على الاحترام المتبادل و حسن الجوار و الاشتراك في منظومة أمن اقليمي ضروري وحيوي أساسه بالطبع الاحتماء بقيم الاسلام و خدمة المصالح المشتركة بعيدا عن اليد الأجنبية وهو ما دعت اليه الدول المجتمعة في ماليزيا لتفعيل تضامن إسلامي صحيح و قوي (ماليزياايرانقطرتركيا). وعلى الصعيد الاقتصادي المرتبط بالسياسة يعتقد الكاتب بأن تواصل هبوط سعر برميل النفط هو الاحتمال القائم للعام الراهن بسبب الوباء والحرب التجارية الأمريكية الصينية مما سيعقد التوازن الهش القائم بين البلدان المنتجة والبلدان المستهلكة وإفلاس الشركات العملاقة المستفيدة من الغلاء. أما المجهول القادم هذا العام أمريكيا فهو بلا شك مفاجأة شهر نوفمبر 2020 أي من الذي سيرث عرش المكتب البيضوي في واشنطن؟ وهو حدث تعودنا أن يتجاوز بكثير حدود الولاياتالمتحدة ليهز العالم ويغير العلاقات الدولية ويعيد توزيع الأدوار في اقليمنا بالخصوص. ومهما كان الرئيس المنتظر (حتى لو أعيد انتخاب ترامب) فهو بكل المقاييس يشكل منعرجا تاريخيا في ادارة البيت الأبيض والعالم. فاذا كان الفائز هو (جو بايدن) فلأول مرة يصل ديمقراطي معاد للعقيدة الجمهورية المتطرفة المعتمدة على شعار (أمريكا أولا) والرجل سيعيد الولاياتالمتحدة الى قيم اليمين المسيحي المعتدل والى السياسة الأخلاقية التي سبق أن انتهجها الرئيس جيمي كارتر. وفي كل حالة من الحالات سوف تتغير التوازنات القديمة بشكل أو بأخر و في باب الأمل و التفاؤل يقدم أصحاب الرأي و القرار رؤى مختلفة تبدأ من توصل الفلسطينيين الى جمع كلمتهم و تحقيق انفراج في العراق بتحويل شأنه الى أيدي العراقيين وحدهم و بلوغ الملف الايراني نقطة الاعتدال و ايجاد حل عادل لمأساة أفغانستان عبر الوساطة القطرية الناجحة و انهيار الجنرال الانقلابي الليبي حفتر أمام الشرعية المسنودة بتركيا و انتخاب قيادات ديمقراطية في لبنان و في العراق و في السودان يحظى بما يقارب الاجماع. هل هذه أضغاث أحلام أم أماني صعبة في عالم متأزم؟ يجيب المشاركون في هذه الحوارات الفكرية بأن الانسانية تحمل بذور الخير و بذور الشر و بأن الأمل و التراحم و المروءة و المحبة و الايثار تبقى قيما خالدة أقرتها كل الأديان والشرائع و يبقى الهروب الى الله (أو الى الأخلاق و التضامن الإنساني) في كل الأزمان هو الحل المستديم لا على صعيد الممارسة الشخصية لكل انسان وفي علاقاته بربه و أهله و وطنه فحسب بل و أيضا و خاصة على صعيد العلاقات الدولية و المعاملات بين الأمم وهنا يكمن الخلاص حسب كثير من الحكماء و العلماء الذين كتبوا هذه الأيام وهم يتأملون بعيون الايمان هذا المنعرج الخطير الجديد.