صدر كتاب للمفكر الفرنسي (باسكال بلنشار) بعنوان (تاريخ آخر للاستعمار) قال فيه أن في فرنسا 25 متحفا متخصصا غير المتاحف الكبرى و أنه ليس من بينها متحف لتاريخ الاستعمار كأن الغرب يريد أن يمحو من ذاكرته كل الفواجع و الجرائم المرتكبة خلال أكثر من قرن. وكل يوم يعيشه العرب يأتي تأكيدا ليقين زادته الأيام توطيدا وهو أن أعداء العرب والمسلمين اختاروا ملعب الفتنة ليضطهدونا و يغتصبوا حقوقنا ويضعونا خارج التاريخ. ويكفي أن نفكك استراتيجية المستقبل التي حددها اليمين الإسرائيلي في مشروع صفقة القرن و حللها نانتنياهو و حليفه (غريمه بيني غانتس) في الحكم في خطابهما أمام الكنيست يوم تشكيل حكومة الإئتلاف لنتأكد أن أبرز عنصر في هذه الاستراتيجية هو تعميق الفتنة العربية الاسلامية مما يخدم أو يعتقد تيار عنصري يميني من داخل الادارة الأمريكية الراهنة أنه يخدم مصالح دولة اسرائيل في ذكرى نشأتها الثالثة والسبعين. فالرئيس ترامب مع زلزال كورونا يدرك تمام الادراك أنه سيغادر البيت الأبيض ومعه سيغادر المتطرفون من المحافظين الجدد سدة القرار الأمريكي ولهذا السبب يأتي السباق المحموم مع الزمن حيث جاء الخطاب كما وصفه صحفي إسرائيلي" انجيليا" بدون أي مساحيق. فالطائفية التي تمزق الدين المسيحي والتي يستغلها رسميا الاسرائيليون غائبة تماما في رؤية اليمين العنصري الإسرائيلي وهي في الواقع الأقوى و الأشد ضراوة في حين أن طائفية المسلمين لم تكن موجودة قبل هزيمة المسلمين بل جاءت نتيجة للقهر و اغتصاب الحقوق وفساد الطبقات الحاكمة و المعارضة!(مثال ذلك من كان يسمع بالحوثيين في اليمن قبل 5 أعوام إلى أن تدخلت الامارات و السعودية بالمال الفاسد و السلاح؟) فالفتنة العربية الاسلامية قائمة لا شك فيها لكنها تبقى ردة فعل المستضعف أمام طاغوت المستكبر ونحن نشاهد الذي يجري في لبنان و في سوريا و العراق و اليمن من تناحر سياسي يلبس كسوة الطائفية و الذي يحدث في العراق من تقسيم قسري للوطن على أساس خدمة المصالح الاسرائيلية و الغربية المتطرفة ثم يزين بعباءة الطائفية و الذي يهدد فلسطين من فتنة بين حماس و عباس و الذي يخطط في العلن لسوريا و ايران من عزل نادى به ودعا اليه منذ سنوات الرئيس الأمريكي بوش الإبن يوم 15 مايو2008 في عاصفة من التهليل و التصفيق أمام الكنيست وهو عراب المحافظين الجدد و منفذ برنامج (برنار لويس) لشرق أوسط جديد!. ولا يجب أن ننسى بأن الاتحاد الأوروبي بسبب انعراج فرنسا نحو الخط الأطلسي ربما ينخرط في عدوان عسكري اقليمي ضد ليبيا و إيرانوسورياوفلسطينولبنان تحت ستار اخماد لهيب الطوائف بينما سلاح التطرف العنصري الاسرائيلي و الغربي هو تغذية الفتنة الطائفية لا اخمادها. وهنا يتجلى الأنموذج العراقي واضحا ساطعا كالشمس منذ 2003 حيث جاء الاحتلال الأمريكي للعراق مؤذنا باطلاق الوحش الطائفي من عقاله والشروع الفعلي في تقسيم العراق الى كنتونات طائفية يمكن التعامل معها كل على انفراد فالمخطط الذي يرتب له من الخارج في بلدان عربية عديدة من تعلات حماية الأقليات المسيحية مثلا يندرج أيضا في هذه الاستراتيجية الشاملة التي يمكن أن نسميها بالأبجدية العربية للفتنة. ولا نملك سوى الاقرار بأن العرب كل العرب يقعون في خارطة العواصف العاتية القادمة وهي خارطة طريق استعادة الأمبريالية الاستخرابية العظمى التي لم تهضم بعد رياح التغيير والتحرير بعد أن هبت على العالم الاسلامي منذ نهضته في القرن العشرين على أيدي الأباء المصلحين المؤسسين و منذ استرجاع الشعوب المسلمة مقاليد مصائرها بعد حركات مقاومة و ممانعة أعادت الروح للجسد المنهك منذ الغاء الخلافة الاسلامية و بدأ المسلمون يتبوأون منزلتهم الرفيعة في العالم و الغريب أن استراتيجية أبجدية الفتنة تعمل على طمس الحقائق التاريخية بالتزييف حيث لم يعد هناك حق فلسطيني حتى لو اعترف به القانون الدولي حسب صفقة القرن و حيث أن الرئيس الأمريكي ضرب بكل المواثيق و القرارات الأممية حتى التي وقع عليها أسلافه عرض حائط المبكى حين أعلن أن الشرق الأوسط الجديد ستقوده اسرائيل الديمقراطية نحو المستقبل خلال الستين سنة القادمة و أنه يتوقع محو حزب الله و حماس والقاعدة و ايران من هذه الخارطة ( لاحظوا الخلط المقصود بين العناصر المختلفة المتباينة ووضعها في نفس السلة). و أنا أعجب من أمر أولئك الشباب العرب المغرورين الذين ينصحوننا عن حسن نية بعدم الانخراط في منطق توقع المؤامرات و الخوف من الغرب وهم معذورون بسلامة الطوية لأنهم ولدوا و نشأوا في دول مستقلة بينما نحن ولدنا و نشأنا في شعوب كانت تخضع لنير الاستعمار و طالما شهدنا و نحن أطفال عسف المستوطن الأجنبي الاقطاعي و ظلم الضابط الدخيل المتعجرف ضد أهلنا في تونس و الجزائر و المغرب و تربينا على الربط الجدلي بين مقاومة الغرب كاستبداد سياسي و استلاب ثقافي و تشويه فكري وتحريف لغوي و بين اعادة الاعتبار للهوية العربية المسلمة كأداة ضرورية للبقاء. ثم ان هؤلاء الشباب لم يقرأوا كيف كانت صحيفة (لوكولون أي المستعمر) تنشر عام 1931 مقالات للعنصري الفرنسي مديرها ( فكتور دوكارنيار) يقول فيها بالحرف: "اذا ما اعترض سبيلك عربي وحية فاترك الحية و اقتل العربي". وعاش جيلي أيضا عهدا كنا نسمع فيه صباح مساء من وسائل اعلام الغرب الطاغي بأن المقاوم الجزائري ارهابي وأن المناضل الفيتنامي ارهابي وحتى نيلسن منديلا ارهابي بل ومدرج في القائمة الأمريكية للإرهاب! والحبيب بورقيبة ارهابي (مجلة باري ماتش الباريسية يناير 1952) والجنرال شارل ديجول ارهابي محكوم عليه بالإعدام عام 1940 من محكمة الخونة في باريس! هؤلاء "الارهابيون" صنعوا التاريخ ودار الزمن ليتحولوا الى أبطال وتبين أن المؤامرات هي السير بعكس اتجاه التاريخ. هذه المعاني والقيم تعود الى أذهان جيلي حين نسمع خطاب اليمين الأمريكي والاسرائيلي يقسم العالم اليوم الى ارهابيين عرب ومسلمين والى خيرين ديمقراطيين اسرائيليين! أي ان خط الامعان في السير ضد اتجاه التاريخ متواصل. [email protected]