الرجال الأتقياء يولدون مصادفة في الزمن الخطأ، ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم، ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر.. شيخنا الجليل:منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة، ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من تطاوين.. ماذا تعني كلمات أو مفردات:منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟.. لا شيء سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه.. شيخنا الفاضل-:الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي..الزمان المفعم بإشراقات الآتي الجليل،ما قبل إدراك الخديعة،بغتة الصدمة وضربة القدر.. تطاوين الحزينة ترثيك.فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين.. أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.هل كان الحمام -التطاويني-يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من –قبيلته-،بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن؟ نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض. إذا رأيتم-فضيلة الشيخ--نائما في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا سكينته بالكلمات. تذكروا فقط أنّه-رحمه الله-مرجع علمي دقيق،بارع في استحضار ادق المسائل الفقهية والشرعية،فضلا عن تمكنه-ببراعة واقتدار-من اللغة العربية وعلومها والسيرة والسنة النبوية زيادة على حفظه وفهمه المستفيض للقرآن الكريم.. سنسكب دمعة سخيّة على جبينك الوضّاء ،دمعة في لون اللؤلؤ،ونكتم الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..ونسأل الله القدير أن يتغمّدك بواسع رحماته وان يجزيك على ما أفدت به الناس بقلبك النقي ولسانك الفصيح وقلمك الوديع ورشدك الرصين.. ختاما أقول: أي رجل فقدت..يا تطاوين..؟ إن العين لتدمع،وإن القلب ليحزن،وما نقول إلا ما يرضي ربنا..إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أشهد أنه كان يحبك ويحب نبيك ويغار على دينك وحرماتك فاجزه عن أمة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء. اللهم ارفع درجته في عليين وتقبله في الشهداء والصالحين واحشرنا معه تحت لواء سيد المرسلين يا أرحم الراحمين. كان شيخنا العلامة محمد الحبيب النفطي رحمه الله سيدا في الورع والزهد،عزيزا لا يرى الدنيا شيئاً،محافظا على دينه وجاهدا لعزة الإسلام فأعزه الله..ولطالما كان يحدّث النّاس عن وجوب ترفع طالب العلم عن الدنيا ودرنها وتعلق قلبه بالله.. فيا طلاب العلم إن لم يرفعكم الله،فلن ترفعكم الدنيا ولا الشهرة ولا المناصب..إن لم يعزكم الله فلن تعزكم الأموال ولا الأتباع ولا الدعاوى.. هل بقي لديَّ ما أقول أيها المسافر إلى رحاب الله..؟ لكل عالمٍ سمتُه الخاصة،وميزاته الفريدة،وشمائله الرائعة،ولكن لهذا الشيخ المبارك-المرحوم محمد الحبيب النفطي-انطباع خاص في مخيلتي: وقارٌ يكسوه تواضع،وهيبةٌ مشوبةٌ بأُنس،واتزانٌ يخالطه انبساط،ومُحيا تزينه أنوارُ الإيمان،ونفسٌ مطمنئة واثقة تغلغل في كيانها تَعشُّق تعاليمِ الإسلام،وعِلمٌ عنوانه التحقيق،واعتدال مقرون بقيود معالم الشريعة ،وتديّن منضبط ومهذّب وآدابٌ رفيعة تحلى بها،فكان له منها من اسمه أوفى نصيب،ومتابعةٌ لأحوال أمته ببصيرة واعية ورؤية متوازنة . وأبيات إمامنا الشافعي رضي الله عنه-أختم-كلماتي..بل مرثيتي-بأبيات إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنا إن عشت لست اعدم قوتاً وإذا مت لست اعدم قبراً همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفراً وإذا ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أزور زيداً وعمراً وداعا..يا شيخنا الجليل..