لاحظت أن تدويناتي الكاشفة لما خفي من تاريخ العرب و بلادي تونس تجلب إهتمام الأصدقاء و تثير فضولهم وهو أمر طبيعي لأن الذين كتبوا التاريخ هم الذين فازوا بالمناصب و صادروا الدولة لخدمتهم و لا يعتقدن البعض أن الفساد نشأ (كالفطر..الشمبينيون) فجأة مع نظام بن علي أو توسع مع الثورة! الحقيقة التي لا يريد بعض الغافلين كشفها هي أن الفساد وأكبر الكبائر السياسية لم تولد عام 87 بل تمأسست و ترعرعت منذ عهد التحول لكن الذي حفر أساسها و صب خرسانتها هو عهد ميلاد الجمهورية و اضطهاد الأسرة الحسينية و إعلان إنفراد زعيم واحد بكل الأمجاد هو بورقيبة و تخوين كل الأخرين ما عداه. وهو ما حدا بصديق بورقيبة الصحفي الفرنسي المناصر لتحرير تونس و الجزائر مؤسس و مدير مجلة (لونوفيل أبسرفاتور) (جون دانيال) الى القول :"بأن بورقيبة هو مفترس الرجال"Bourguiba est un mangeur d'hommes" و عند لقائي ب(جون دانيال) أخر مرة في حفل سفارة قطر بباريس بالعيد الوطني سألته عن سبب ذلك النعت فقال لي ضاحكا: " أنا قلت هذا للرئيس بورقيبة نفسه و لم ينف أو يغضب و أضاف: "إن بورقيبة بدأ بافتراس أخيه سي محمد بورقيبة مؤسس الحزب معه ثم أكل رؤوس أغلب من تبقى من المؤسسين كمحمود الماطري و الصادق بوصفارة و سليمان بن سليمان و الحبيب ثامر و حسين التريكي و طبعا أولهم صالح بن يوسف الذي صفاه متهما إياهم إما بالخيانة أو بالضعف أمام القمع الاستعماري و استمر في اضطهاد الجيل الذي جاء بعدهم أمثال علي البلهوان محرك مظاهرة 9 أفريل 38 و عزوز الرباعي أحد أبطال 9 أفريل الذي عملت معه سنوات في النشر وهو الذي أكد لي أن علي البلهوان توفي إثر أزمة قلبية مباشرة بعد أن أهانه بورقيبة رحمهم الله جميعا ثم جاء الدور على البقية أمثال الباهي الأدغم و الهادي نويرة و أحمد بن صالح و الحبيب عاشور و محمد مزالي" أريد أن أستخلص حقيقة تاريخية وهي أن التصفيات السياسية و الإنفراد بالسلطة و المجد لم تولد عام 87 بل إن واضع أساسها المكين هو النظام الجمهوري. لكن هذا لا ينفي في نظري مكاسب النظام البورقيبي خاصة إكمال تحرير البلاد و مساندة الشعب الجزائري و إرساء الدبلوماسية التونسية و إنشاء الجيش الوطني و نشر التعليم المجاني و القضاء النسبي على القبلية مع أن رئيس أول جمهورية لم يكن عادلا بين الجهات لأنه جعل من بلدته المنستير و بعض الساحل بالرغم من وطنية أغلب السواحلية و عدم رضاهم عاصمة ثانية مع إهمال كارثي لبقية الولايات المهمشة كما لم تنجح قوانين الأحوال الشخصية في رفع الظلم عن النساء بل إنها كرست المظالم على الرجل و المرأة معا و فككت الأسرة وهو ما تؤكده إحصائيات الدولة الرسمية منذ أعوام. أما توظيف القضاء فبدأ في عهده لا محالة بمحاكم استثنائية عديدة ذهب ضحيتها كل من وقف ضد انفراده بالقرار و تواصل استعمال بعض القضاة (حاشا الشرفاء منهم وهم الأغلبية) في تصفية الخصوم و المغضوب عليهم بتعليمات تعطى مباشرة من بورقيبة نفسه الى وزير العدل و حتى من وسيلة و من ...سعيدة ابنة أخته رحمها الله في عهد انهيار الدولة و حدثني وزير العدل صديقنا الوفي رضا بن علي و سكرتير بورقيبة محمود بلحسين كيف تصدر الأحكام جاهزة حسب مزاج وأحقاد أولئك المقربين و حاشيتهم و استمر بن علي في نفس النهج بأكثر وحشية و بقي وجه من كان يسمى (عميد قضاة التحقيق) رمزا لمهازل كيدية أحتفظ بوثائق بعضها لأنها تصنع "جريمة" من أي ممارسة عادية لأي رجل عادي يحوله هذا العميد بسحر ساحر إلى متهم! وهي بلا شك تدين 23 سنة من نظام التحول و تبرأ من أدينوا ظلما و للأمانة كانت ال23 سنة مع بن علي ذات إيجابيات إقتصادية عديدة بسبب تعيينه لكثير من التكنوقراط الخبراء وزراء فأحسنوا إدارة الدولة لكن ذلك العهد تأسس مثل عهد بورقيبة دون قضاء مستقل و لا برلمان حر! أنا عملت في حزب بورقيبة منذ صباي الأول و كنت مديرا للسان الحزب (العمل) التي أسسها الزعيم عام 1934 و كنت من 1981 الى 1986 مقررا للجنة المركزية للحزب أعد بينات اللجنة و أتلوها على مسامع بورقيبة عند نهاية أشغالها و تشرفت بتوسيمي من أيدي الزعيم بوسامي الإستقلال (1982) و الجمهورية (1986) لكني كنت منذ شبابي الأول معارضا للحزب الواحد و كبت الأصوات التي لو تركها بورقيبة تعبر لما عانينا مصائب التعاضد و لا التطرف و لا الفساد. أما أن يطلع علينا اليوم من يخون الزعيم و يتهمه بالعمالة فهو أمر غير مقبول و غير موضوعي لأن بورقيبة أصيب بنوع من الانحراف الى الشخصانية منذ 1974 و لم يعارضه أحد أبدا و لم يتكلم أحد عكس ما يدعيه بعض من كتب سيرته الذاتية بعد جانفي 2011 فالتاريخ علم و تدقيق و حياد و هذا هو الذي يدفعني الى كشف بعض العاهات التي شوهت تونس و تاريخ غرسها في تربتنا و نتمنى ألا تعود مستقبلا مع شباب تونس.