في ما يلي تنشر الكلمة الجميلة والبليغة التي سيلقيها يوم غد الأستاذ الكبير أحمد الهرقام في أربعينية الوزير الصالح والمصلح الشاذلي القليبي في مدينة الثقافة ...وتجدر الاشارة الى ان الهرقام كان أقرب الناس للعزيز الراحل وعرفه وخبره وعاشره معاشرة فيها محبة وتقدير...وهذه قضية اخرى يطول الحديث فيها وعنها... الصريح اونلاين شرفها الهرقام بأن أهداها كلمته قبل أن يلقيها فإليكم هديته فهي لكم: كان ذلك في نهاية السبعينات من القرن الماضي ( جويلية 1979 ). لم يكن يتصوّر أحد أن تستمرّ الجامعة العربية خارج مصر وخارج القاهرة بالذات .. ولم يكن يجرأ أحد أن يتمّ إنتخاب الأمين العام من خارج مصر ويدير باقتدار الأمانة العامة للجامعة العربية ... فقد كانت هناك قناعة "طبيعية" تقرّ بأن تكون الجامعة دوما في مصر وتحت رعاية وعناية المصريين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ نشأتها ... ثم جاءت عملية السلام مع إسرائيل واتفاقيات كامب ديفيد وما أثارته من زوابع وزلازل في المنطقة ، وكأنها فاجأت العرب وصدمت وجدانهم وهزّت من الأعماق ثوابتهم وقناعاتهم .. فكان أن قرّروا في بغداد ، على عجل، استعادة قرارهم من خلال " انتزاع جامعتهم" من القاهرة وتجميد عضوية مصر فيها .. وفي المقابل لم تكن تونس في ذلك الوقت مهيأة أو معنية أو حتى ساعية لإحتضان مقرّ الجامعة العربية، فهي في أقصى الغرب من الوطن العربي وسياساتها كانت دوما ومنذ الإستقلال قائمة على الإنصراف لمعالجة المشاكل الداخلية للمجتمع التونسي واجتهد نظام الحكم فيها لمدّ جسور التعاون والتفاهم مع الدول الغربية عموما وبلاد أوروبا على وجه الخصوص.. وأصبح من السائد وقتها أنّ إختيار تونس كمقرّ للأمانة العامة هو اختيار أملته الضرورة الملحّة في ذلك الوقت وفي الظروف التي إلتأم فيها مؤتمر القمة العربية الطارئة في صيف 1979. وجاء إختيار الأمين العام التونسي في هذا الإطار، فهو من رجال الزعيم بورقيبة الأكفاء وأول وزير للثقافة في تونس فضلا عن كونه عضو أصيل في مجمع اللغة العربية في القاهرة .. جلس الأستاذ القليبي على كرسي الأمين العام في تونس وأمامه صفحة بيضاء في العمل العربي المشترك، فهو بطبعه الهادئ الكتوم لا يميل إلى معارك الإيديولوجيات والإنتماء الطائفي أو الحزبي ولم يشارك في معارك الهيمنة وأوهام الهوية والمزايدات الثورية .. كان واعيا بخطورة المرحلة التي تم إختياره لإجتيازها، وكان يفكر مليّا قبل أن يأخذ الكلمة، ويتشاور كثيرا قبل أن يصدر موقفا أو قرارا .. كان يقرأ ملفاته جيدا ويكتب خطبه وتصريحاته بنفسه ، يزن الكلمات ويضمّنها قدر ما تستحق من المعنى والهدف. ثم ينأى بنفسه عن المهاترات ولغو الكلام في المحافل الخطابية والإذاعية التي كانت تشعل الحرائق في شتى أنحاء البلاد العربية .. حاول أن يجدّد الأولويات في العمل العربي المشترك وكان مخلصا في قناعاته الوطنية التي من بينها بأنّ الجامعة يجب أن تخدم القضايا المركزية لكل العرب بدون استثناء، لأنه فهم منذ اليوم الأول أن خروج مصر من الجامعة كان قرارا متسرّعا شكل خسارة جسيمة لكل العرب. فعقد العزم على بذل الجهود الهادئة لإحتواء هذا الإنكسار العربي وفتح أبواب الأمانة العامة للموظفين المصريين من مختلف الكفاءات وكذلك من سائر الدول العربية، وأشرك كبار الساسة والمفكرين المصريين في اللجان العربية المشتركة المدعوة لتحديد مستقبل العمل العربي في شتى المجالات. فهم الأستاذ القليبي مبكّرا أن مشاكل الوطن العربي تكمن أساسا في تعطل جهود التنمية وتوزيع الثروة والنهوض بالإنسان في مجالات التعليم والصحة والتشغيل والبناء. وعهد إلى كبار رجال الإقتصاد والتنمية في الدول العربية لإعداد دراسات دقيقة ومحيّنة لمشاريع تنموية أساسية في مختلف الدول العربية .. وبعد أشهر من الحوار والنقاش والتشاور دعى إلى عقد أول قمّة عربية اقتصادية عقدت في عمان ( 25/11/1980) وافتتحها الملك الراحل حسين بن طلال بقوله " وإنه لمما يبعث عن التفاؤل أن نجتمع وبين أيدينا نتائج محددة وواضحة لدراسات قامت بها نخبة من المسؤولين في ميداني المال والإقتصاد في أقطارنا العربية ومعهم مجموعة من الخبراء العرب الذين استهدفوا خلال عامين من البحث والدراسة تحديد معوقات العمل الإقتصادي العربي منذ بدايته في الخمسينات وحتى يومنا هذا .. وقد خلصت جهودهم إلى نتائج موضوعية أجمعت الهيئات الإقتصادية العربية المشتركة على التوصية بها إلى مؤتمركم العتيد اليوم..". وقد شعر المراقبون بعد انعقاد القمة بأن رياحا جديدا تهبّ على الجامعة العربية في تونس وعلى تناول مشاكل العرب فيها إذ حرص الأمين العام على إقناع القادة العرب بضرورة عقد القمة العربية بصورة دورية ثابتة، واهتمّ بمشاركة كل الدول مهما صغر شأنها في صياغة القرارات الصادرة عنها والإلتزام بها ، حتى أصبحت إدارات الجامعة في تونس تعجّ بالمختصّين ورجال السياسة والمفكرين والإعلاميين .. واصبح سفراء الدول الأجنبية وخاصة الدول العظمى يتدافعون للإجتماع بالأمين العام والإستماع إلى رأيه والحرص على دعوته لزيارة عواصمهم المختلفة والإلتقاء بزعمائها وأحزابها المختلفة. وفي كل ذلك كان الرجل متواضعا خجولا ، لا مواجها ، كان يفهم ولا يفصح ، كان بليغا في صمته وبليغا في قلمه وكان يعمل بجدّ لمصالحة تونس مع أمّتها العربية ومدّ الجسور بين العواصم في الوطن الكبير مهما اختلفت المصالح والقضايا. ومن مظاهر هذا الإهتمام كانت رعاية تونس للجامعة لا تتجاوز الأعراف الديبلوماسية المعهودة فلم أسمع يوما بتدخل وزير أو رئيس في قرار من قرارات الأمين العام بما فيها تلك القرارات التي تمسّ جوهر الأمن الإقليمي في المتوسط أو مع ليبيا في زمن غليان الزعيم الليبي القذافي. وكان ذلك من بعض أسباب إعجاب المراقبين الأجانب بالسياسة التونسية وحرصها على عدم التدخل عمل وفي شؤون الجامعة العربية. كان القليبي يجتهد بصورة جدية لوضع الخطط العملية للتحرك الديبلوماسي باتجاه الإتحاد الأوروبي والإتحاد الإفريقي وكذلك دول آسيا ودول أمريكا اللاتينية فكان لا يهدأ في ترحاله وفي إجتماعاته في شتى العواصم شرقا وغربا لأنه ظل حتى آخر لحظة يؤمن بأرضية مشتركة للمصالح العربية يدافع عنها بنفس الحماس في لندن أو نيويورك أو داكار أو الرياض، كان صديقا للجميع وخادما أمينا لقضايا أمته الواسعة ، فهو يراها مقدّسة ثابتة وفي مقدّمتها قضية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. انتخب ثلاث مرات متتالية للأمانة العامة بإجماع كل قادة العرب على مختلف مشاربهم وأهوائهم ومصالحهم. وعندما توسعت الزلازل وعصفت الأحقاد والحروب بكل الثوابت العربية وكان ذلك إثر غزو العراقي للكويت وما خلفه من مآس وويلات للمنطقة وشعوبها الأمر الذي جعل الأمين العام يقتنع بأنه لا مجال له بعد ذلك لمواصلة مهامه فكتب نصا بليغا استقال بموجبه وأرسله إلى قادة العرب في ( 5/9/1990) (بعد اختتام مؤتمر القمة الطارئة في القاهرة) قال فيه : " لقد التزمت الصمت، كل هذه الأيام، وعلى مثل الجمر، منذ الثاني من (اوت) أغسطس المنصرم، من دون إخلال بواجبي القومي. فأجريت عديد الاتصالات. وأصدرت عديد الرسائل، عربياً ودولياً، علناً وسراً، وشاركت في كل الاجتماعات المشتركة. وذلك تحاشياً لتعميق الخلافات القائمة داخل الأسْرة العربية، آملاً أن تسفر الجهود المبذولة عن الحل السياسي، الكفيل، وحده، بإنقاذ وحدة الصف العربي، ومصير الأمة. ولكن، اليوم، وقد أصبح من الواضح، أن العمل العربي مُقدِم على انقسام خطير، وربما لمدة طويلة، أجدني مضطراً إلى الكلام. نعم، حصلت، منذ 1979، أزمات حادّة، داخل الأمة العربية، فرّقت بين بعض دولها. فقد التزمنا حيالها أخلاقية محددة، تتلخص في تجنّب البيانات، إعلامياً، مع بذل جهود دؤوب، ومهمة، بصبر وجَلد. فكان ذلك بالنسبة إلى الخلافات بين منظمة التحرير الفلسطينية وسورية، والخلاف المزمن بين سورية والعراق، أو ما طرأ من توتر، على العلاقات بين بعض الدول الشقيقة، ومنها الوطن الذي أنتمي إليه. لكن الأمر، بلغ، اليوم، ذروة الخطورة. ولذلك، قررت أن أعلن قلقي على أملنا القومي، من المخاطر المحْدِقة به، وأنهي الاضطلاع بمسؤوليتي، كأمين عام لجامعة الدول العربية. ذلك أنه كان لي أمل، حتى هذه الأيام الأخيرة، في إمكان الحل السلمي، على رغم الصعوبات. ولكن، اتضح لي، الآن، أن هذا الحل، لم يعد مجدياً، حتى لو تم الاهتداء إليه، وقِبلتْ به جميع الأطراف العربية المعنية؛ والسبب هو إصرار جهات أجنبية على استعمال القوة، وأولاً، وأساساً، القضاء على قوة عربية، بإمكانها أن تحد من أطماع إسرائيل بالتوسع والهيمنة على المنطقة. أقول ذلك، من دون تزكية لكل التصرفات العراقية، منذ أشهر، وبخاصة بعد قمة بغداد الناجحة وآخرها اجتياح الكويت، عسكرياً، وما نتج منه، خصوصاً من احتجاز للمدنيين الأجانب. ودونما ارتياح إلى إعلان العراق امتلاكه السلاح الكيماوي؛ والحال، أن إسرائيل تملك منذ مدة طويلة السلاح النووي، الذي هو أخطر، لكنها لم تعترف بحيازتها هذا النوع من السلاح الفتاك. لكل هذه الاعتبارات، أجدني، اليوم، مضطراً إلى أن أنهي المسؤولية، التي حاولت الاضطلاع بها، بكل أمانة، وبكل حماسة. إنني لا أنحاز إلا إلى الطرف العربي، الذي في حاجة إلى دعم أسْرته العربية. إن الصومال تعرض لعدوان إثيوبيا، وليبيا تعرضت للعدوان الأمريكي، والعراق طوال سنوات الحرب مع إيران، وسورية لأنها سد في وجه إسرائيل، ولبنان في صورة متواصلة، يعاني ويلات الحرب، والسودان يعاني مآسي اقتصادية واجتماعية، وتتعرض وحدته الترابية للخطر، ومنظمة التحرير لأنها تكافح من أجل ما تعتبره الأمة قضيتها المركزية. واليوم، دولة الكويت. ومن حق الكويت علينا، اليوم، أن نكون إلى جانبها. كما أن من حق المملكة العربية السعودية علينا، أن نشد أزْرها في ما تعتقد أنه خطر، يهدد أمنها. ولكن، من حق العراق، أيضاً، علينا، ألاّ نتركه عرضة لأشرس عدوان جماعي أجنبي، لا يهدف إلى الذود عن الشرعية الدولية، بل إلى مآرب معروفة، حاجات في نفوس آل يعقوب. إن جامعة دولنا، تواجه، اليوم، انقساماً خطيراً، بسبب ما حدث في الكويت، ولأن الدواء، يوشك أن يكون أشد من الداء، بل يخشى أن يكون قاتلاً؛ إذ إن الدمار يهدد، اليوم، المنطقة كاملة، وكذلك القضية المركزية، قضية الشعب الفلسطيني، والانتفاضة المجيدة الباسلة، وقضية لبنان الجريح، التي تراجعت في سلم الأولويات العربية والعمل العربي المشترك، ولم تعد تحظى بأي اهتمام. لا جدال في أن لكل دولة من دولنا، حق أن يتوافر لها الأمن والطمأنينة، تحت سقف البيت العربي الموحد. والقاعدة التي تحكم علاقات الدول الأعضاء في الجامعة، إنما هي الميثاق بكل بنوده، روحاً ومنطوقاً. وواجب الأسْرة، كان يفرض عليها صون هذا الميثاق، في الأيام الأولى من وقوع الأزمة. لكن الأسْرة، عجزت عن ذلك، ومن مسؤوليتها، أيضاً، ما حدث بعدئذ. فنحن، الآن، أمام وضع خطر، وشديد التعقيد. لكن قلقنا، يتجسد، أساساً، في القضية المركزية، التي تواجه مخاطر، لا مثيل لها، منذ عقود. نأمل أن تتضافر كل العزائم الصادقة، والجهود المخلصة، في كل دولنا، من دون استثناء، من أجْل أن تجتاز الأمة هذه المحنة، قبْل أن يفوت الأوان، فيعم السيل العارم كل الأراضي المحتلة. ولئن كان لنا رجاء، نتقدم به إلى إخواننا، قادة هذا الكفاح المقدس، الذين نكنّ لهم كل محبة، وكل تقدير فهو أن يلتزموا، مستقبلاً، عدم الدخول طرفاً في أي نزاع عربي، وأن يبدأوا بالتفكير، من الآن، في طبيعة النظام، الذي سوف تتبنّاه الدولة الفلسطينية، بعد الاستقلال. وسأبقى إلى جانب هذا الكفاح المقدس، بكل ما أوتيت من جهد وحماس وإخلاص ولئن كانت لنا أمانة نوْدِعها قادة دولنا، الذين نكنّ لهم جميعاً كل الاحترام فهو أن يجعلوا البيت العربي قائماً على الوحدة والتضامن، في السراء والضراء، وعلى التكافل، الذي وضعوا أُسُسه، وكرسوه في قمة عمّان، عام 1980؛ لأن وحدة الصف من وحدة الأمة". أكاد أقرأ في هذا النص البليغ سيرة حياة ومنهج تفكير الشاذلي القليبي رحمه الله في تناول أعقد المشاكل وتحديد أفضل السبل وأنجعها للمّ الشمل وتوحيد الكلمة والإصرار على الحقّ والثبات على المبدأ. أعتقد أن رحيل المرحوم الشاذلي القليبي سوف يترك فراغا كبيرا في أسلوب ومنهج تفكير النخبة التونسية الأولى التي بنت دولة الإستقلال، وسوف يظل ذكره على الدوام مثالا يحتذى في صدق النية والعمل الصالح في سبيل إنقاذ الأمة وإشعاعها.