وبعد أن وعد بن يوسف فرنسا إذ هي تخلتْ عن بورقيبة ومنحته ثقتها وتفاوضتْ معه حول الاستقلال التام لتونس بأنّه سيمنحها ممالك المشرق والمغرب أي سيرجع لفرنسا إمبراطوريتها ويكون سفيرا لديها في هذه الممالك شعر بن يوسف أنّ هذه الوعود في حاجة لمزيد من الدعم لذلك كان لا بدّ من مواصلة تقديم شواهد الإخلاص والطاعة وذلك بنصح فرنسا لتبتعد عن بورقيبة وهذا هو المحور الثاني من الحوار الذي جاء فيه:" وكأنّ فرنسا تشعُر بلذّة ساديّة ناجمة عن اقتلاع لحية الاستعمار شعرة فشعرة ولا مناص في كلّ مرّة من الصياح والألم والدمّ والمقاومة والعداوات والحال أنّها تعلم من الآن أنّه لا مناص من سقوط هذه اللحية بتمامها وكمالها فلماذا لا تقتلعها مرّة واحدة حسب ما أَطْلُبُ منها أنا. فما أجمل ذلك الوجه(وجه فرنسا) الذي نرسمه بعد ذلك معا"(انتهى قول بن يوسف) .إنّه لتشبيه رائع وبليغ ف"بن يوسف" شبّه سياسة المراحل التي توخاها بورقيبة مع فرنسا بمثابة نتف اللحية شعرة بشعرة قبل اقتلاعها مع ما في ذلك التكرار من صياح و ألم ودمّ وعداوات رغم أنّ فرنسا تعلم أنّه في الأخير ستسقط هذه للحية لذلك يدعوها أن توفّر عن نفسها هذا العذاب وما يترتّب عنه من ألم وصياح وذلك باقتلاع هذه الحية مرّة واحدة مثلما يطلبه هو من فرنسا حتى يرسما معا (بن يوسف وفرنسا) وجه فرنسا الصبوح " بعد نزع غمّة اللحية. كما ينهاها عن إتّباع ما يفعله بورقيبة من نتف اللحية شعرة فشعرة .وهذا يدلّ أنّ بن يوسف بدأ يشعر أنّ بورقيبة سينتف كلّ لحية فرنسا شعرة بشعرة أي أنّ سياسة المراحل ستأتي أكلها و ستؤدّي للاستقلال التام... وأنّ بورقيبة سيكسب من ذلك مجدا وسمعة ويستأثر بالغُنْم المحتمل(قول بن يوسف) .فكان من الطبيعي أن يشوّه صورة خصمه السياسي لذلك نبّه فرنسا من أنّ بورقيبة عندما يأتي بالنَتَفِ المملّ على كلّ لحية فرنسا(الاستقلال التام) سوف :" لن تبقى من صلة بين تونس وبورقيبة وفرنسا سوى الاستياء والحقد بل العداوة البغضاء" و هل يقصد بن يوسف من هذا التحذير إلّا أن يُرغّب فرنسا إن هي قبلتْ مقترحه وهو نتف الحية مرّة واحدة غير تمكينها من علاقة طيّبة بدون عداوة ولا بغضاء ولا حقد بين تونسوفرنسا وما وراء هذا الودّ من ضمان لمصالح فرنسابتونس؟.ويتمادى بن يوسف في رسم صورة خصمه السياسي علّه يزهّد فيه المستعمر و يفوز بالقرب من فرنسا فيقول :" كيف لم تدرك فرنسا أنّ بورقيبة وأتباعه قد خانوها وأنّهم يسخرون منها في حين أنّها لا يمكنها أن تلومني على أنّي خدعتها في يوم من الأيام" (انتهى قول بن يوسف) أسمعتَ يا خياري ويا مخلوف ويا... ما يقوله من تتباهيا بصورته وتجعلان منه رمزا من رموز مقاومة المستعمر لقد قال إنّ بورقيبة قد خان فرنسا وسخر منها ولم يقل إنّ بورقيبة كان عميلا لفرنسا كما أنّه يشهد فرنسا على وفائه لها وأنّها لا تستطيع لومه على أنّه خدعها في يوم من الأيام .فلماذا هذا الانبطاح وإراقة ماء الوجه؟ وهل هي بقيّة الجزرة التي يحاول بها بن يوسف استدراج فرنسا فها لصفّه؟ لكن ويا للأسف رغم كلّ هذا السخاء وكلّ هذه الوعود بأن يجعل "بن يوسف"من فرنسا أكبر مستفيدا من المشرق والمَغْرب وهي بذلك ستسبق غيرها من الدول المتنافسة على هذه المناطق لما تمتاز به من موقع وخيرات وسيكون سفيرها لما كسبه من ثقة من هذه الدوّل و رغم اقتراحه أن يوفّر عن فرنسا آلام تكرّر نتف لحيتها بترك خطّة بورقيبة "سياسة المراحل" وأتّباع خطّته "النتف دفعة واحدة "للوصول لاستقلال التام دفعة واحدة بعد إلغاء وثيقة الاستقلال الداخلي طبعا وأنّ بورقيبة لا يُسْتثاق به فهو خدّاع ويكره فرنسا ولكنّه هو لم يخن فرنسا في السابق وصوف لن يخونها في المستقبل لا يحمل عليها حقدا مثل بورقيبة الخدّاع.لكن رغم كلّ هذا الترغيب لم ينطليّ ما قاله بن يوسف إلى فرنسا وأضيف -فقط للتاريخ- أنّ المندوب السامي "سيدو" عندما اطّلع على ما قاله "بن يوسف"" لشارل سوماني" علّق قائلا:" لكن لم أتبيّن الثمن الذي يريد الحصول عليه" ..فرغب وضوح ما يريد بن يوسف الحصول عليه هو إبعاد بورقيبة وتقريبه هو ليتمّ استقلال تونس على يديه فإنّ قول المندوب السامي عدم تبيّن الثمن الذي يرده بن يوسف مقابل هذا الفيض من الهداية لا مكن إلّا أن يكون من باب السخريّة من أقوال بن يوسف إنّ المواقف المهينة لهذا الزعيم الوطني سوف لن تنمحيّ من الذاكرة التونسيّة لتعرف الأجيال المقبلة نهائيّا من هو بورقيبة ومن هو صالح بن يوسف ... هذا هو" بن يوسف" على حقيقته فهو يتبرّأ أمام فرنسا- من أن يكون معطّلا لوثيقة الاستقلال الداخلي ولا محاربا لها أي هي ليستْ خطوة للوراء وهو يحرص أن لا يُقْصى وتٌقْصى حظوظه عند وقوع مفاوضات محتملة وهي واقعة و"لا مناص منها" أي هو يريد أن يستغلّ ما جاء في لائحة مؤتمر صفاقس من حرص على أن يكون الاستقلال الداخلى خطوة للاستقلال التام ليساهم في مفاوضات الاستقلال التام حتّى يكون له نصيب مما هو في نظره "كعكة" سيفوز بها بورقيبة وحده و أنّ التفاوض مع فرنسا خطوة خطوة للحصول على الاستقلال التام ليس خيانة يقوم بها بورقيبة وتفريط في حقّ الوطن بل على عكس ذلك هو خطوة لتحرير تونس فهو يطلب من فرنسا أن تمكّنه من حظّه في أن يكون طرفا في التفاوض معها .حتّى لا يحرم من شرف ومَغْنَمِ تحرير تونس. أمّا ما يتغنى به اليوسفيون الجدد من أنّ بن يوسف مع الشرق العربي ويرفض الاقتراب من فرنسا الاستعماريّة والغرب. و بورقيبة عميل فرنسا تواطأ معها للحصول على استقلال منقوص ومضرّا بمصالح تونس فمن ما لا جدال فيه أنّ بعد هذا الحوار مع "شارل سوماني" في 23 جانفي 1955 والموثّق في خزائن الأرشيف ستسقط مزاعم هؤلاء بالضربة القاضية وستسكتهم إلى الأبد لأنّها ليست مجرّد حقنة( "زريقة") كما تمنتها "سامية عبو" لإسكات صوت عبير موسي. أختم بهذا السؤال: هل حاول بن يوسف أن يكون عميلا لفرنسا ولم ينجح؟.أترك الجواب على هذا السؤال للقُرّاء النُزَها وللأجيال القادمة على أن يضعوا في اعتبارهم حتّى يكون حكمهم عادل ما قاله المندوب السامي الفرنسي" "لم أتبيّن الثمن الذي يريد (بن يوسف) الحصول عليه (من فرنسا وحلفها الغربي). أؤكّد من جديد أنّي كدستور أعتبر "صالح بن يوسف" زعيما من زعماء الحزب الدستوري وحواره مع" شارل سوماني" يبرز التنافس بين الزعيمين ليكون كلّ منهما المخاطب الأكفأ لنيل الاستقلال وإنّي لا أتوجّه بهذا الخطاب لليوسفيّين الأحرار الذين هم قبل كلّ شيء دساترة ناضلوا جنبا إلى جنب مع الدساترة البورقبيّين لتحرير الوطن واختاروا في آخر المطاف الانحياز لبن يوسف لوجهة نظرهم الخاصة والمحترمة لكن أردتُ من ما سبق أن أردّ على الجهلة الذين يريدون تخوين بورقيبة وتبيّض بن يوسف لا حبّا في بن يوسف بل نكالة في بورقيبة ودولة الاستقلال حتّى يعلموا أنّ بن يوسف بمجرّد ما شعر بأنّ بورقيبة قد توصّل مع فرنسا على خطوة ستتبعها خطوات هرول نحو فرنسا لتقديم شواهد الطاعة وحاول إقناع المستعمر بقدرته على تمكين نفوذه في المشرق والمغرب و أنّه أخلص لفرنسا من بورقيبة وأنّها ستندم على التوافق مع بورقيبة . أؤكّد على أنّ هذا هو هدفي الوحيد عسى أن يرفع هذا التوضيح ما ختم على قلوب وسمع و أبصار هذه الجماعة من غشاوة مصداقا لقوله تعالى: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشاوة ولهم عذاب عظيم (الآية 7 من البقرة )