الصحفيون الذين كانوا يشتغلون معي في جريدة العمل لا بد أنهم ما يزالون يتذكرون ذلك اليوم وأقص عليكم هذه المواقف لأنها تسلط على ذلك العصر وعلى شخصية بورقيبة بالذات أضواء الحقيقة! خلال الأشهر الأولى التي تسلمت فيها إدارة جريدة (العمل) اليومية لسان الحزب الدستوري الحر (الأصيل العريق و ليس المزيف المختلق) أردت أن أغير منهج جريدة الحزب بإدخال بعض الحريات المتاحة طبعا و لم تكن كثيرة مثل اليوم كحال الدول العربية جميعا و وجدت الفرصة في تحقيق صحفي أعتقد أن من قام به أحد هؤلاء من فرسان الإعلام وقتها إما محسن الجلاصي أو محمد علي الحباشي أو علي الرزقي حسب ما أذكر (أبرز الاستقصائيين وهم زملائي قبل أن أتحمل الإدارة) و جاءني للمكتب زميلي الأكبر رئيس التحرير عبد القادر قزقز قيدوم جريدة (العمل) و في يده ملف وضعه أمامي قائلا لي :" هذا تحقيق حول طفلين مصابين بمرض نادر ليس له علاج إلا في الخارج و يلح كاتبه على أن أعرضه عليك أنت" و فتحت الملف و هو موثق بشهادات طبية و صور و خاصة إستغاثة أمهما الموجهة الى رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة بدعواتها لفخامته بالصحة و العافية! وقال لي عبد القادر ناصحا عن قناعة وتجربة: "هذا التحقيق لا تنشره جريدة بورقيبة لأن فيه مسا من وزارة الصحة ومن الدولة و الرئيس يطلع كل صباح على الجريدة وأكيد سوف يشتاط غضبا و أنت تعرف غضباته الأسطورية!" وقلت له محاولا إقناعه: "ربما تغير المناخ مع محمد مزالي وهو رئيس حكومة يؤمن بحرية التعبير المسؤولة وبورقيبة نفسه يحب الخير للشعب و عاطفي فلنجرب!" ورد علي أن نشره سيكون على مسؤوليتي الشخصية إذا لم أقتنع بالنصيحة فقلت له "لنجس النبض و الله معنا" و أذكر أن عبد القادر رفع يديه الى الأعلى قائلا لي (اللهم قد بلغت) و سألني هل ينشره كاملا أو يخفف منه؟ فقلت له :" بل أنشره كاملا و بالصور و الوثائق" و هكذا كان و احتل التحقيق يوم الغد صفحة كاملة مع إشارة في الصفحة الأولى (بأن طفلين تونسيين ينتظران معجزة لإنقاذ حياتهما) و نمت تلك الليلة مطمئن الضمير لاعتقادي أنني أديت واجبي و لم أتجاوز لا حدود المهنية و لا حدود الأدب لكن بهاجس توقع ردود فعل بعض حاشية الزعيم المناهضة لكل نفس تحرري. الذي حدث هو أنه على الساعة السابعة صباحا كانت المفاجأة المدوية وغير المتوقعة! كنت ما أزال في فراشي أتصفح ككل صباح الجريدة وأقرأ التحقيق وإذا بالهاتف يرن (وهو موصول بستندار"تحويلة" دار الحزب في القصبة) فرفعت السماعة وسمعت صوت موزع التلفون زميلي الحبوب خميس يقول لي: "السيد الرئيس طالبك" فكان ردي العاجل والتلقائي:" سي محمود المسعدي رئيس المجلس؟" لأن سي محمود كان أحيانا ينسق معي أشغال مكتب المجلس لأني كنت مقررا لأكبر لجنة برلمانية وهي لجنة الشؤون السياسية! فقال خميس وهو مندهش أيضا:" لا لا معايا قصر قرطاج واللي طالبك فخامة رئيس الجمهورية" وأصارحكم أنني في تلك الثواني توقعت إقالتي الفورية ورفتي من اللجنة المركزية للحزب أو أخطر على عملتي السوداء! وبعد تحياتي المتلعثمة: "سيدي الرئيس صباح الخير وهذا شرف لي" سمعت صوته الذي ارتبط في ذاكرتنا كجيل كامل بملحمة كفاح! صوت متأني وكلمات واضحة دون رد التحية قال لي بلهجتنا الدارجة:" يا سي أحمد الصباح قرأ لي محمود (يقصد بلحسين) الكلام اللي نشرتوه عن الزوز (يعني الإثنين) أولاد المرضى و بلغتني دعوة الخير من أمهم و توة (الأن) كلمت رشيد صفر (وزير الصحة أنذاك) و أذنتو باش يبعثهم على حسابي أنا للخارج و بارك الله فيك اللي نشرت ها المشكلة في جريدتي أنا" و لا تتصوروا مدى دهشتي وفرحتي بانتصاري للحرية و كررت الشكر و التقدير للسيد الرئيس وهو يسمع دون رد فعل الى أن أغلق الهاتف و لم أصدق ما كسبته من رهاني المتواضع على تغيير بعض ما بالصحافة الحزبية من كلام خشبي بنيل ثقة الرئيس و تجاوبه السريع مع مأساة الطفلين! وبالفعل صدر عدد الغد من (العمل) بمانشيت على ستة أعمدة: (المجاهد الأكبر يستجيب لنداء الأم ويأذن سيادته بعلاج ولديها بالخارج على حسابه الخاص ويصدر تعليماته إلى وزير الصحة). ومجموعة أرشيف الجريدة موجودة في المكتبة الوطنية وفي المركز الوطني للوثائق لمن يريد الإطلاع أو البحث التاريخي! رحم الله بعض من ذكرت وأحيي من عاش تلك التحولات معي و لا يزال حيا يرزق! و التاريخ قصص صغيرة لكنها تنير سبيل الحقيقة!