ماذا بقي من أفكار محمد أركون (1928 / 2010 ) محمد عابد الجابري ( 1935 / 2010 ) نصر حامد أبو زيد ( 1943 : 2010 ) مفيدا لنا بعد أن رحلوا وتركوا رؤى و جهدا معرفيا في الإجابة على سؤال التقدم والتأخر وسؤال كيف نلحق بركب الحداثة الغربية ؟ وهل مازال لمشاريعهم الفكرية البريق الذي أحدثته في حياتهم و هل من قيمة في التعامل مع التراث الديني بعد أن تركوا منجزا فكريا يرى فيه البعض أنه لم يحقق المصالحة ولا القطيعة مع التراث القديم ولم يحقق المطلوب من عملية المراجعة والنقد والتحليل للموروث الديني ؟ وكيف نحكم على هؤلاء المفكرين العرب الذين شغلوا الفضاء الفكري لفترة طويلة وأثروا في جيل بكامله وكانت كتبهم مرجعا في قراءة التراث والجواب على سؤال كيف نتقدم وكيف نحقق النهضة المهدورة في جميع المجالات خاصة وأن هناك من يرى أن الجابري بعد كل الجهد الذي قام به قد تحول إلى فقيه و انتهى كما تنبأ له المفكر طيب التيزيني سلفيا في آخر كتابه الذي خصصه لتفسير القرآن وتحول من نقد العقل إلى التعبد بالنقل وأن نصر حامد أبا زيد بعد المحنة الفكرية التي عاشها قد انتهى هو الآخر كما يقول المفكر علي حرب أصوليا من حيث المعجم الذي استعمله ولم يقدر أن يتخطى عتبة التراث رغم ما قام به من عمليات هدم كثيرة للمسلمات الدينية أما محمد أركون فقد اتضح أن قربه من الدوائر السياسة و الفكرية الفرنسية وعيشه في الغرب قد جعله يمارس في كل ما كتبه الترف الفكري ولم يعش الواقع الصعب الذي عاش فيه الجابري وأبو زيد مما حول منجزه الفكري إلى مجرد كتابات أكاديمية نظرية لا تحقق نهضة لأمة العرب والمسلمين ؟ وأخيرا لماذا عجز ثلاثتهم على انجاز قطيعة معرفية تامة وكاملة مع التراث الإسلامي نحو بناء واقع عربي مختلف من دون القديم يقوم على رؤية أخرى ؟ وكيف ولماذا انتهت مشاريعهم إلى مشاريع مبتورة غير مكتملة ؟ ولكن هل فعلا كانت مشاريع هؤلاء المفكرين مبتورة كما يقول عنهما دارسوها أم أن الجماعة قد قدموا الإجابة المطلوبة للتعامل مع التراث وأضافوا كثيرا للإجابة على سؤال القديم والجديد وما هو الطريق للخروج من التخلف ؟ كان هذا تقريبا هاجس الندوة الفكرية التي نظمتها جمعية " فواصل " للدراسات الفكرية والاجتماعية " واحتضنها مقر جمعية مؤمنون بلا حدود يوم الأربعاء 19 أوت الجاري تولى تأثيثها الأستاذ ناظم بن براهم بمداخلة حول " القرآن المستحيل " في فكر أركون والجابري وأبي زيد والأستاذ رامي البراهمي بمداخلة حول " الارتودكسية الفقهية بين اركون والجابري وأبو زيد " والأستاذ حازم الشيخاوي بمداخلة حول " سطوة التراث في فهم ما وراء الرسالة الدينية لمكانة المرأة " وقام بتأطير الندوة وتقديمها والتعقيب على المداخلات الأستاذ نادر الحمامي رئيس جمعية مؤمنون بلا حدود. في مجمل ما قيل في المداخلات التي تولت تقييم منجز المفكرين الثلاثة وناقشت مشاريعهم الفكرية التي انجزوها نقف على فكرة مهمة وهي أنهم جميعا قد اعتنوا بالنص القرآني النص المؤسس للدين الاسلامي و شغلهم العقل الديني فى علاقته بفهم النص القرآني وكان هاجسهم واحدا وهو هل نحن في هذا العصر في حاجة إلى القرآن ؟ و إذا كانت الإجابة بالإيجاب فكيف تفهم هذا القرآن في عصر وزمان لم ينزل فيه ؟ وهل يمكن في عملية الفهم والقراءة الحديثة للقرآن أن نعتمد على الجهاز المفاهيمي الذي اعتمد عليه القدامي وأنتجوه أم نحتاج إلى أدوات فهم وبحث جديدة تستفيد مما وصل إليه علم المناهج من أدوات فهم ؟ السؤال الكبير كان كيف نفهم القرآن وفق معطيات العصر المختلفة عن فترة نزوله ومراعاة المعارف الحديثة التي تفرض تأويلا مختلفا للنص القرآني غير ذلك الذي انتهى إليه القدامي ؟ في هذا المستوى حصل الاجماع بين المتدخلين على أن الجابري مثلا لم يستطع أن يخرج عما قاله القدامي في القرآن رغم محاولته لتجاوز معارفهم وتقديم رؤية جديدة وفكر جديد حينما طرح سؤاله في كتابه الأخير الذي فسر فيه القرآن " كيف نفهم القرآن " وحاول تبني تأويلا جديدا للنص القرآني المؤسس لكنه في هذا العمل لم يخرج عن التعريفات القديمة التي اعتمدت عليها كتب التراث وحافظ على نفس المصطلحات من قبيل " الكتاب والمصحف والوحي... " وحافظ على نفس الجهاز المفاهيمي القديم ( الناسخ والمنسوخ العام والخاص المحكم والمتشابه ... ) ولم ينتج أدوات معرفية جديدة رغم أنه خصص فصلا كاملا في تفسيره تحدث فيه عما يقوله القرآن عن نفسه مما يطرح السؤال الكبير هل يمكن بنفس الجهاز المفاهيمي القديم ونفس أدوات البحث والمعرفة التي انتجها الفقهاء القدامى أن ننتج تأويلا جديدا ونصل إلى قراءة وفهم معاصرين ومتجددين للفرد المسلم المعاصر والغريب الذي وقف عليه من درس مشروع الجابري في فهم التراث إجابته عن هذا السؤال في قوله " إنه بفضل التقنيات الحديثة الني ظهرت اليوم من حاسوب وتكنولوجيا حديثة أمكن لنا أن نجمع كل التفاسير القديمة وكل المادة الدينية لنقوم بعملية ترميم حسب ترتيب النزول وهكذا نصل إلى معنى واضحا للقرآن " من دون أن يبين ما معنى القرآن الواضح ؟ وعلى خلاف الجابري كان الاهتمام الكبير لناصر حامد أبي زيد في سؤال القرآن تركيزه على المنهج وعلى الجهاز المفاهيمي المعتمد حيث أولى اهتماما واضحا بالمناهج الألسنية وخاصة مفهوم النص واعتباره أن الثقافة والحضارة الاسلامية هي حضارة نص وهو كلام حسب النقاد فيه إهمال كبير للجوانب الأخرى من فكرية وفلسفية وعلمية وفنية جمالية مما يعني أن حامد أبا زيد لم يقدر أن يتجاوز النص القرآني بصفته نصا له حضوره الثقافي و لا يمكن التشكيك في دوره في تحديد أيهما الأسبق النص أم الحضارة وهل النص قد انتج الحضارة أم أن الحضارة هي التي انتجت النص وسابقة عنه ؟ وهذا يعني أن أبا زيد لم يخرج عن سطوة النص وحاول تأصبل ما كان مهمشا من النصوص التراثية كالنص الاعتزالي واعتبار الشافعي أكثر وسطية من المالكية والأحناف الأمر الذي جعل المفكر علي حرب يقول عنه لقد انتهى حامد أبو زيد أصوليا من حيث المعجم الذي استعمله إن المأزق التاريخي الذي وقع فيه المشروع العربي التأويلي العربي في الإبقاء على ألوهية الوحي و الاتفاق حول الثوابت الإيمانية وفكرة قابلية هذا الوحي لنقاش بشري وقابليته لتأويل متكرر ومتجدد فحسب الدارسين لهذا المنجز الفكري للمفكرين الثلاثة كان الأولى أن ينكب البحث حول كيفية تشكل هذه النصوص إلا أن الاهتمام قد انكب على التأويلات الجديدة والقراءات الحديثة للقرآن لذلك كان المأزق التأويلي الجديد للمفكرين الثلاثة هو محاولة تشكيل الإنسان الجديد والمؤمن المعاصر إنطلاقا من السياق التاريخي و من إشكالية هل ننطلق من الواقع لتفسير النص أم نقدم النص وتحتكم إليه لتفيسر الواقع ومأزق الثقة في المصادر الإسلامية التي شكلت المعرفة الاسلامية لعصور وتحولت إلى حقيقة دينية إلى جانب النص الأصلي. أما محمد أركون وهو المشروع الأهم في قراءة التراث وسؤال القرآن أو كيف نفهم القرآن فهما عصريا تليق بالمسلم المعاصر ؟ وكيف نبني إنسانا مؤمنا معاصرا بالاعتماد على صناعة وعي تاريخي وانتروبولوجي يقوم على فكرة إعادة القرآن إلى سياقه اليهودي والمسيحي باعتباره وحيا كباقي الوحي وليس نهايته وإرجاعه إلى سياقه الذي ظهر فيه وهو كونه خطابا دينيا يشترك مع الخطاب المسيحي واليهودي في الكثير من الأشياء والتمييز بين القرآن الشفوي والمكتوب والمدونة الرسمية ما يميز أركون عن الجابري على الأقل هو اعتماده واستفادته الكبيرة من المناهج دون تبريرها. المشكلة في مشروع أركون التأويلي للنص القرآني هو في محاولة تطويعه النصوص الدينية للمناهج الغربية المعتمدة والخلط الذي وقع فيه بين دراسة هذه المناهج وبين الحاجة إليها في فهم النص المقدس وهنا يطرح مفهوم الحاجة التي تجعل من الضروري الاستعانة بهذه المناهج التي ظهرت في بيئة غير البيئة التي ظهر فيها النص القرآني لفهمه . المأزق الآخر الذي وقع فيه أركون كغيره من المفكرين هو تطبيقه هذه المناهج الغربية على نص قرآني يعتبره هو النص الاأصلي والنص الحقيقي وغياب استفادته من المنجز الاستشراقي الحديث في دراسة القرآن. ما يمكن قوله بعد الوقوف على أبرز ملامح المشاريع الفكرية للمفكرين الثلاثة موضوع هذه الندوة هو أن سؤال إعادة الفهم والقراءة و التأويل للنص القراني كان هو الهاجس الكبير لديهم لكن الفرق بينهم أن المنهج والطريقة كانت مختلفة والتفاعل بين المشاريع الفكرية التي خلفوها كان غائبا حيث لم يعرف أنه قد حصل حوارا بين ثلاثتهم مباشرا ولا عبر انتاج معرفي. الملاحظة المهمة هي أن الجماعة يمكن تصنيفهم ضمن الفضاء المعرفي الذي بقى وفيا للمنظومة المعرفية الدينية وإن نقدوا الأبنية المعرفية للتراث والمضامين التراثية مما يجعلهم أقرب إلى السياق التنويري الذي يتحرك من داخل الفضاء و السياق الاسلامي لا من خارجه ولم يقدروا أن يجروا القطيعة المعرفية مع التراث كما فعل التيار الحداثي الغالب .. المشكل في كل هذه المشاريع أنها انتهت إلى انتاج قطيعة مبتورة غير مكتملة أو منقوصة لكونها حافظت بشكل أو بآخر على الكثير من المعارف والمضامين القديمة التي أنتجها العلماء القدامى في فهم النص القرآني فكل الحلول تقريبا كانت تلفيقية توفيقية من خلال الحفاظ على النص وإعادة فهمه وتأويله وفق منهج ينتهي في الأخير عند نظرية المقاصد للشاطبي التي تقوم على فكرة مقاصد الشريعة أو عند فكرة مقاصد النص وسقطت في الخط التنويري الذي سعى إلى تأصيل الحداثة انطلاقا من الموروث القديم ووجدت نفسها في منزلة بين الحرفيين المحافظين وبين القائلين بالقطيعة الكاملة وهذه الوضعية جعلت من ثلاثتهم ينتهون غرباء مفردين إفراد البعير المعبد وفي منزلة معلقة بين الحداثة والدين ليبقي السؤال بعد رحيلهم مطروحا ماذا نريد بهويتنا الموروثة ؟ و هل يمكن أن نحقق تدينا فرديا من دون فرضه على الوعي التأويلي ؟ ولكن هذا السؤال يطرح سؤالا آخر حول معنى التدين الفردي ؟ وهل يوجد تدين من غير دين ؟ واليوم بعد مضي عشر سنوات على رحيل الجابري وأركون وأبي زيد وسنوات أخرى على انجاز مشاريعهم هل حان الوقت لتجاوز هذه المشاريع الفكرية التنويرية التحديثية التي تنطلق من قراءة التراث وتأويل النص القرآني بعد أن وصلت هذه المشاريع إلى مدارها ولم تحقق المطلوب منها وهو تحقيق القطيعة الكاملة والتامة مع التراث خاصة وأن بعضها في نظر الدارسين قد انتهت إلى عكس ما رمت إليه مع بقاء سطوة التراث واضحة في كل ما كتبوه .