نعود مرة أخرى إلى موضوع الإرهاب وعودة هذه المرة فرضتها الحادثة الأليمة التي جدت يوم الأحد 6 سبتمبر الجاري عند مفترق طريق أكودة القنطاوي بمدينة سوسة في منطقة تتواجد بها عادة دورية للحرس الوطني ذهب ضحيتها عون من الحرس الوطني بعد أن تم دهسه بسيارة قبل أن يقفز منها ارهابيين توجهوا إلى العونين الذين كانا بالمكان ووجهوا لهما طعنات عديدة ليسقط أحدهما شهيدا والثاني حالته حرجة للغاية. المهم والمفيد هذه المرة في حديثنا عن السلوك الإرهابي وتطرقنا للظاهرة الإرهابية في تونس وكل الفواجع والألم التي يخلفهما إجرام أفرادها أن ما حصل هذه المرة يحتاج حديثا خاصا ومقاربة مختلفة عن كل التحاليل التي سبق وأن فسرنا بها الظاهرة الإرهابية حيث على خلاف ما يفسر به سلوك التطرف الديني والانتماء إلى الجماعات الإرهابية المعادية للدولة المدنية والمجتمع الديمقراطي ودولة المواطنة بالعودة إلى العامل الاقتصادي المنتج للفقر والحرمان والخلل الاجتماعي المفضي إلى فك الارتباط عن المجموعة وفشل السياسات التنموية والسياسة التعليمية التي لم تنتج إلا الجهل والعاطلين عن العمل والمهمشين في المجتمع وبالعامل النفسي الذي يجعل الفرد يشعر بالغربة داخل دولته مما يجعله يبحث عن معنى وهوية ومكانة مفقودة بعد أن تخلت عنه الدولة ولم ترافقه في عجزه الاجتماعي ليجد نفسه يبحث عن حل فردي لعجزه في غياب الحلول الجماعية، فكل هذه المقاربات وإن كانت تفسر علميا لماذا وكيف يتحول الفرد العادي إلى متطرف دينيا أو شخصا إرهابيا يشرّع للقتل بإسم الدين إلا أنها في حادثة أكودة لا تكفي لتفسير ما حصل حيث تفيد المعطيات الأولية التي كشفت عنها الأبحاث بعد أن تم القضاء على العناصر الثلاث التي شاركت في الجريمة أن الذي حرك هذه المجموعة لترتكب الجرم الذي قامت به لم يكن استراتيجية إدارة التوحش لمجموعة ارهابية خططت لتكبيد الدولة خسائر جسيمة ينجر عنها تداعيات سياسية واقتصادية في خطة مرسومة لإرباكها وإضعاف أجهزتها وإدخال الفوضى والشك في صفوف المجتمع كما هي حالهم في عملية متحف باردو أو حادثة السفارة الأمريكية ونزل الإمبريال بسوسة أو تفجير حافلة الأمن الرئاسي بشارع محمد الخامس بالعاصمة، وإنما الراجح أن الذي حصل كان عملا متخبطا من مجموعة ارهابية يائسة تعيش حصارا أمنيا كبيرا وضعفا في القدرات الإجرامية جاء تصرفها فرديا عشوائيا غايته الحصول على بعض الأسلحة لاستعمالها في عملية أخرى حتى وإن تزامن الحادث مع العيد السنوي للحرس الوطني وحتى وإن ربطه البعض مع حصول حكومة المشيشي على ثقة البرلمان وبداية الاستقرار السياسي للبلاد. اليوم لم يعد مفيدا أن نعيد كل التحاليل التي تحدثنا عنها في السابق في علاقة بتفسير الظاهرة الارهابية وإنما المفيد هو أن نفهم كيف ولماذا تحركت هذه العناصر في هذا التوقيت تحديدا ؟ ومن أوعز لهم بالتحرك ؟ ومن ضغط على الزر حتى تتحرك .. اليوم ما نطالب به هو أن يتم الكشف عن الجهة التي تقف وراء هذه العناصر المنفردة وأن نحدد الخيوط التي تتحكم في الإرهاب والتي تتحكم في إعطاء الأوامر؟ ما يحتاجه الشعب اليوم علاوة على إظهار الجاهزية العالية لقواتنا الأمنية في التعاطي مع الإرهاب أن تقدم الدولة المعطيات اللازمة حتى نفهم من يقف وراء الجماعات الإرهابية في تونس وأن نفك شفرة عمليات الاستقطاب التي تحصل يوما للكثير من الشباب المغرر به وأن نحل لغز مواصلة الانتماء إلى هذه الجماعات رغم الضربات الموجعة التي تلقتها على أيدي قواتنا الأمنية وأن نقدم تفسيرا مقنعا للأسباب التي تجعل النشاط الإرهابي يتواصل رغم الحصار والخناق الذي تعرفه جماعاته والشلل الذي حصل في تحركها والذي أضعف قدراتها نتيجة الإيقافات اليومية لعناصرها وتقديمهم للمحاكمة. ما يحير اليوم بعد كل الخبرة التي اكتسبتها الدولة في محاربة الإرهاب والتجربة التي حصلت طيلة عشرية كاملة من المواجهة مع الجماعات الارهابية وتفكيك تنظيماتها هو أن لا نصل إلى استنتاجات واضحة ودلائل دقيقة على حقيقة الإرهاب في تونس وعلى من يحركه ومن يتحكم فيه ومن يقف وراءه؟ فمن يقع القبض عليهم او تصفيتهم على أرض الميدان هم العناصر الفاعلة والمباشرة للفعل الإرهابي لكن الأفيد من كل ذلك هو تحديد الجهة أو الجهات التي تخطط وتعطي الاوامر وتقرر التنفيذ.. اليوم ما هو مطلوب هو أن نمر إلى أفق آخر غير المواجهة الأمنية وغير المقاربات التي تفسر الظاهرة الارهابية إلى تحديد الجهات المسؤولة وتحديد الأشخاص الذين يقفون وراء هذه الجماعات بالتخطيط والتمويل والإسناد وطالما لم نحقق هذا المطلب فسيظل الإرهاب بيننا إلى وقت آخر .