عاد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يرأسه وزير الثقافة الأسبق الدكتور مهدي المبروك إلى موضوع إصلاح المنظومة التربوية وقضية إصلاح المدرسة التونسية وخير أن يعيد فتح النقاش والحوار حول سؤال المدرسة في علاقة بفشل تحقيق أهدافها وإخفاقها في مواكبة مرحلة الانتقال الديمقراطي واستيعابها لقيم المرحلة التي تعيشها البلاد بعد سقوط النظام القديم وبناء منظومة حكم جديدة أولى دستورها الجديد لسنة 2014 مكانة بارزة للمدرسة وخصص فصلا كاملا للحديث عن جودة التعليم وهذه العودة للحديث عن المسألة التربوية حتمها التقييم الذي يشترك فيه كل الاخصائيين في التربية والانطباع الذي نجده لدى المواكبين لمشاريع الاصلاح ومحاولات تطوير المدرسة والذين اجمعوا على فشل عملية الاصلاح التي بدأت بعد الثورة ، هذا النقاش المتجدد قد تزامن مع العودة الاستثنائية للدروس بعد توقف دام قرابة الستة أشهر وما رافق ذلك من حصول الكثير من الاخلالات الهيكلية والنقائص التي أعاقت انطلاقة عادية لاستئناف الدروس فكان اللقاء يوم السبت 19 سبتمبر الجاري في ندوة فكرية جمعت ثلة من الاخصائيين ومن أساتذة الجامعة التونسية و المهتمين بالمسألة التربوية. في هذا اللقاء كان السؤال الهاجس الذي طرحه المركز أي دور للمدرسة بعد الثورة والتحدي المحمول عليها في التوفيق بين مطلب التنشئة على قيم الديمقراطية ومطلب جودة التحصيل المعرفي وقدرتها على تخطي المعيقات التي تحول دون تحقيق الاصلاح المنشود والمطلوب الذي يحقق الفرص لولوج المدرسة روح العصر الذي هيمنت عليه التكنولوجيا الحديثة والتقنيات المتطورة وشبكات التواصل الاجتماعي ويستجيب لحاجيات المستقبل وتحديات القادم . من الأفكار المهمة التي وردت في هذه الندوة الاتفاق على تعثر عملية الاصلاح التي شرعت فيها وزارة التربية منذ 2011 وفشل كل محاولات الاصلاح والمشاريع التي قدمت والتي كانت مرتبطة دوما بإصلاحات غير مهيكلة وبقيت مرتبطة بأصحابها و عملية ارتباط المشروع الاصلاحي بالشخص كان أحد عوامل الفشل في الاصلاح التربوي .. من الأفكار الأخرى التي أخذت حيزا من الحديث والتي جعلت المدرسة تفشل في عملية الاصلاح عدم الاتفاق على مرجعية فكرية جامعة تحدد الملامح الكبرى لمدرسة الغد وتجيب على السؤال المركزي أي مدرسة نريد ؟ وأي تلميذ نريد ؟ موضوع القيم في المشروع المدرسي الجديد كان حاضرا بكثافة في هذه الندوة حيث ركز الجميع على ضرورة أن يقوم الاصلاح التربوي على مرجعية قيمية يتربى عليها الناشئة وتبني شخصيتهم ونحتاجها في بناء مواطن صالح متصالحا مع هويته ومنفتحا على الآخر وعلى القيم الكونية و متجذرا في محيطه الجغرافي ومتواصلا مع تاريخه وثقافته وغير منغلق على المنجز الكوني والراهن العلمي والفكري والحديث عن مكانة القيم في الاصلاح التربوي وضرورة التفكير في إصلاح التعليم برؤية تقوم على منظومة قيمية تبني إنسانا متوازنا يتطلب التعريج على أهمية الاستراتيجية التربوية التي تحدد منظومة القيم التي يحتاجها الإصلاح التربوي وتحدد الفلسفة العامة أو الايدولوجيا التي سوف تتبناها الدولة وتقيم عليها مشروعها للإصلاح وهي مسألة عسيرة في الحالة التونسية لصعوبة الاتفاق حول رؤية جامعة واحدة يتفق عليها الجميع ولا يختلفون. لماذا فشلت المدرسة في مواكبة التحول الذي عرفته البلاد ولم توفق في أن تعكس رياح الانتقال الديمقراطي التي هبت على البلاد وبقيت المدرسة مشدودة إلى فترة ما قبل الثورة في حين أريد لها أن تكون مواكبة للمرحلة الديمقراطية. حول هذا السؤال قدمت إجابات مختلفة منها غياب الإرادة السياسية في تحقيق هذا المطلب وغياب المشروع الإصلاحي والرؤية التي تربط بين الاصلاح وقيم الديمقراطية ورغم وجاهة هذا الموقف إلا إننا نميل في تفسير هذا التعثر أو هذا الفشل إلى كون من قام بالثورة أو من احتضنها أو من خطط لها قد أراد لها أن تكون ثورة حول منظومة الحكم القديم وثورة لإزاحة رأس الحكم فقط وأراد لها أن لا تتجاوز المجال السياسي والصراع على السلطة أما باقي المجالات الحيوية فهي خارجة عن منطق الثورة وغير معنية بما حصل من انتقال ديمقراطي وهذا ما يفسر كذلك عدم مواكبة الثقافة والفن والإبداع والاقتصاد والاجتماع لمخرجات الثروة واستحقاقات من قام بها بعد أن أرادوها ثورة مبتورة منقوصة. من الأفكار المهمة الأخرى والتي تحتاج أن نلتف إليها ونحن نعيد النظر في فشل كل المشاريع الاصلاحية للمنظومة التربوية أن أحد أهم الإخلالات في تأخر الإصلاح غياب العزيمة والإصرار في تطبيق ما أتفق عليه فالمشكلة الأساسية ليست في غياب الأفكار أو الاستراتيجيات فهذا كله موجود بشهادة الخبراء الأجانب الذين أثنوا على ما تنجزه الوزارة من مشاريع وإنما وراء الفشل وجود تراخ كبير في التطبيق وغياب الانضباط الحكومي في مواصلة الإصلاح ومواصلة ما بدأ فيه السابقون الذين تقلدوا الوزارة وحسب عليهم الاصلاح . ومن أسباب فشل إصلاح المدرسة أن الكثير من الرؤى الاصلاحية كانت بتوصية من الخارج ولم تكن نابعة من حاجة المدرسة أو خيارا مجتمعيا وقد أجمع كل الاخصائيين على فشل كل إصلاح لا ينبع من بيئته ومن حاجة أصحابه فحتى تعريب التعليم على أهميته لم يكن خيارا نابعا من إرادة الدولة والمجتمع وإنما كان توصية من البنك الدولي فجاء تعريب التعليم مبتورا ومشوها ولم يؤد القصد منه وكانت نتائجه كارثية على الناشئة بعد أن تراجع المستوى العلمي. قضية الايدولوجيا كانت حاضرة هي الأخرى في هذه الندوة حيث لوحظ وجود قناعة بضرورة أن يكون الاصلاح قائما على إيديولوجيا تقوده وأن أي نجاح في تطوير المدرسة يحتاج أن يكون مسنودا إلى رؤية وعقيدة وأن الدولة تحتاج هي الأخرى إلي ايديولوجيا هي بمثابة الوعاء الذي يرسم السياسات الكبرى للدولة والمجتمع . إصلاح التعليم يحتاج إلى مداخل واضحة وإلى رؤية واضحة وإلى إرادة سياسية ومن مداخل الاصلاح الفضاء المدرسي والبنية التحتية للمدرسة التي اتضح اليوم أنها مترهلة و غير مؤهلة للتدريس وتقديم درس جيد .. وتحتاج إلى مقررات ومضامين توفر ما يحتاجه تلميذ العصر الراهن من علوم ومعارف حديثة وتصنع جيلا مؤمنا بالتفوق والريادة ويكون في خدمة تقدم البلاد .. وتحتاج إلى مرب يتمتع بمستوى عال من المعرفة ويتوفر على تكوين يؤهله لقيادة المدرسة نحو الأفضل فحجر الزاوية في الاصلاح التربوي هو المعلم والمدرس ومن دون مرب لا يؤمن بالمشروع فلن يكتب للإصلاح أي نجاح .. وتحتاج إلى مراجعة الزمن المدرسي الذي اتضح أنه في حاجة إلى مراجعة متأكدة وضرورية بعد أن بات الزمن المدرسي الحالي غير مفيد. ما يمكن قوله بعد كل الذي استمعنا إليه من مداخلات قيمة وأفكار مهمة حول إشكالية الاصلاح التربوي أن أسباب الخلل واضحة ومعروفة وأن تحقيق الإصلاح ممكن فقط ما ينقص هو الارادة السياسية وربط الاصلاح بالوزارة وفك الارتباط بين عملية إصلاح التعليم و الشخص أو المسؤول الذي انجزه أن نجاح الإصلاح ينقصه الرؤية الجامعة والاتفاق الوطني حول منهج واحد وفكرة واحدة ودون ذلك فإن المدرسة سنضل تتخبط في عمليات التنظير والخلافات والتجاذبات المختلفة.