يبدو أن السياسيين في واد والواقع التونسي الجديد الذي فرضته الجائحة الوبائية في واد ثان .. ويبدو كذلك أن الطبقة السياسية برمتها لم تفهم بعد أن انتشار فيروس كورونا وتغلبه على العقل البشري قد فرض واقعا جديدا وعالما مغايرا وزمنا مختلفا .. ويبد أن الحكومة لم تفهم الدرس الوبائي ولم تفهم التحولات الجذرية التي فرضتها الجائحة والتي أجبرت البشرية بأسرها أن تغير من نمط تفكيرها ونمط عيشها وغيرت من أولوياتها وسياساتها العامة .. لم يفهم من يحكمنا ويدير الشأن العام أن فيروس كورونا قد غيّر من أولويات الحكم وفرض أن يكون الاهتمام الرئيسي في المجتمعات والأولوية في الخيارات التنموية لقطاع الصحة والجانب الاجتماعي للمواطنين حيث كشفت الجائحة أنه رغم تقدم الدول وتفوقها في ميادين حساسة كالتكنولوجيا والطب والذكاء الاصطناعي إلا أن الوباء الذي اجتاح العالم قد كشف عن ضعف فادح في ميدان الصحة والخدمات الاجتماعية نتيجة ضعف التغطية الاجتماعية وغياب الدولة عن كل إسناد اجتماعي. اليوم هناك نقاش موسع في مختلف العواصم الغربية حول تأثيرات انتشار فيروس كورونا على الوضع الاجتماعي للشعوب ونقاش آخر حول التحولات التي صاحبت هذه الجائحة خاصة فيما يتعلق باحتلال مجال العلم والمعرفة صدارة المشهد من أجل استيعاب تعقيدات الواقع الجديد الذي فرضته الأزمة الصحية ونقاش ثالث حول ضرورة تغيير المنظومة الاقتصادية والاجتماعية القائمة والتي اتضح أنها لم تكن على قدر تحديات الجائحة واتضح ضعفها في احتواء المخاطر المحدقة بما يعني أن الأولوية الأولى لكل الحكومات في قادم الأيام سوف تركز على دعم قطاع الصحة وتطوير مجال الخدمات الاجتماعية وهذا يتطلب تغيير السياسات العامة في اتجاه إعادة ترتيب الخيارات التنموية للشعوب بما يجعل من هاذين القطاعين الأسبقية على كل القطاعات الأخرى وذلك لا يكون إلا بضخ كميات كبيرة من الأموال في ميزانيات الدول الأمر الذي بدأنا نلمسه في تفكير الحكومات الغربية التي فهمت أن التحدي القادم هو تحدي الصحة وتحدي الخدمات الاجتماعية. لكن الصدمة اليوم أنه رغم صيحات الفزع التي يطلقها الخبراء والتي تدعو جميع الحكومات إلى مزيد العناية بقطاع الصحة من أجل توفير الإمكانيات المادية اللازمة لمواجهة هذه الجائحة التي سوف تلازم البشرية لسنوات طويلة ومحاربة هذا الوباء الذي سوف يعيش معه الإنسان لفترات أخرى و رغم كل النداءات التي يطلقها الخبراء بضرورة أن تولي الحكومات عناية أكبر بصحة الإنسان ووضعه الاجتماعي فإن حكومتها لا تزال تفكر بالعقلية القديمة وكأن لا شيء يحصل من حولنا ولا تزال تتصرف بطريقة فيها تجاهل تام لكل التحولات التي فرضتها الجائحة الوبائية وعوض أن تساير الطارئ الجديد وتستعد لمحاصرة الوباء برصد كل امكانيات الدولة من أجل الخروج من هذه الأزمة الصحية بأقل أضرار ممكنة من خلال دعم ميزانية وزارة الصحة فإنها قد خصصت نسبة 5.48 % لقطاع الصحة في مشروع ميزانية سنة 2021 وهو رقم ضعيف لا يستجيب للتحديات الصحية في علاقة بضعف البنية التحتية المتهرئة وقلة التجهيزات في المستشفيات وتراجع الإمكانيات المتوفرة للطاقم الطبي فميزانية كهذه ماذا يمكن أن تفعل وزارة الصحة لمواجهة هذه الأزمة الخطيرة ؟ ماذا يمكن أن تفعل وزارة الصحة بميزانية حددت ب 45 مليون دينار من كامل الميزانية العامة وهي تخوض حربا كبيرة تحتاج تمويلات ضخمة وسوف تتواصل لسنوات؟ المشكلة أن مثل هذا التصرف وهذا التقدير السياسي يوحي بأن العقل الذي يفكر مواصل في القناعة التي بدأت تتأكد من كون الدولة تسير في اتجاه التخلى عن كل ما هو قطاع اجتماعي وكل ما هو قطاع عام وصالح عام والذي من بينه الصحة العمومية حيث كان يفترض أن تفهم الحكومة التونسية الدرس الكبير لفيروس كورونا وهو أن الدولة لا يمكن لها أن تتنصل من دورها الاجتماعي وأن لا تتخلى عن تدخلها في حياة الأفراد لتوفير الخدمات التي يحتاجونها والتي ثبت أن القطاع الخاص لا يمكن أن يوفرها أو أنه يوفرها بكلفة باهظة لا يقدر عليها عموم الشعب. اليوم بميزانية كهذه في حدود 5.5 % ما هو مبرمج لوزارة الصحة لا يمكن أن نتباهي بأننا نقاوم في الجائحة الوبائية ولا يمكن أن نفتخر بأننا نتحكم في إنتشار فيروس كورونا…