مرة اخرى اقرا في ورقة اليوم من يومية دار الفنون التي قلت في مقال سابق انني لها عاشق وبها مفتون ان الطفل في المانيا يحصل على قرطاس ممتلئ بالحلوى والألعاب في اول يوم له في المدرسة وهو تقليد متبع عندهم منذ القرن التاسع عشر وذلك من اجل ازالة رهبة التلميذ من المدرسة وترغيبه في التعليم...لقد ذكرني ما ورد في هذه اليومية بما وقع لي في اول يوم قضيته في مدرستي الابتدائية لقد كان ذلك منذ ما يقارب الستة عقود في مدينة اريانة مدينة الأزهار ومدينة الورود وتحديدا في مدرسة 18 جانفي التي ارسل لها بهذه المناسبة الف قبلة وقبلة واتوجه اليها بالف تحية وتحية فقد اوصلني ابي رحمه الله الى هذه المدرسة في ذلك اليوم لابدا فيها مشوار حياتي العلمية ولما دخلت القسم مع بقية التلاميذ شعرت بوحشة وحزن وانقباض وضيق ليس له مثيل ذلك انني لاول مرة في حياتي ادخل مكانا واسعا فسيحا وحدي وليس صحبة ابي الذي كان لا يتركني وحدي ابدا في اي مكان وانني لاول مرة اسمع ان هذا المكان اسمه مدرسة ولكنني لم ارها من قبل ولا اعرف عنها شيئا فهي بعيدة عن بيتنا وليست في حينا وانني لاول مرة اجلس امام رجل قيل لي انه معلمي ولكنني لم اره من قبل ولا اعرف عنه شيئا وانني لاول مرة ايضا اجلس بين اطفال مثلي قيل لي انهم تلاميذ ولكنني لم ارهم من قبل و لم يسبق لي ان عرفت منهم احدا... ولست ادري كيف مر يومي الأول في تلك المدرسة وانما ما اعرفه وما زلت اذكره الى اليوم انني عدت الى بيتنا بغير الوجه الذي ذهبت به اذ شعرت ان العالم كله قد تغير من حولي في ذلك اليوم الذي ابتعدت فيه لاول مرة عن بيتنا وفارقت فيه لاول مرة ابي وامي واخوتي وبعد تفكير غير طويل قررت الا اعود الى تلك المدرسة ابدا وكنت متاكدا ان ابي رحمه الله سيلبي لي هذا الأمر اذ لم اعرفه قبل ذلك قد رفض لي طلبا حتى ولو قلت له املا لي يدي فضة وذهبا فقد كان رحمه الله يحبني حبا كبيرا لا ظن انني وجدت حبا مثله في هذه الحياة باعتباري اول ذكر رزقه الله به بعد ان رزقه قبل مولدي بخمس بنات وبعد ان كاد يياس من ان يهب الله له ذكرا يتخذه صديقا وصاحبا وانيسا في خضم ومعترك هذه الحياة...ولكن ما ان اشرق صباح اليوم الثاني حتى ايقظني ابي رحمه الله وامرني بالاستعداد للمدرسة كما فعلت في اليوم الاول وطمانني انني ساقضي فيها يوما جديدا جميلا مختلفا عن ذلك اليوم البئيس التعيس ولما وصلنا الى المدرسة لم يتركني ابي وحيدا كما فعل في اليوم الأول وانما سار معي نحو القسم واقترب من معلمي رحمه الله واسر اليه ببعض الكلمات فما كان منه الا ان تبسم في وجهي وداعب ذقني وربت على كتفي ومسح بيده اللطيفة راسي ثم ادخل يديه الى جيبه واخرج بضعة قطع من الحلوى وسلمها الي مبتسما وامرني ان ادخل القسم فاسرعت هذه المرة بالدخول وانا فرح مسرور وجلست في مكاني وانا في كامل النشاط والاطمئنان فقد شعرت في ذلك اليوم الثاني وبعد تلك المعاملة اللطيفة ان معلمي يحبني ايضا وربما يحبني مثل ابي ... ارايتم ايها القراء ماذا تفعل الحلوى والمداعبة والتلطف بالصغار خاصة في اول يوم لهم بالمدرسة وفي اول مصافحة لهم مع الأقلام والكراسات والكتب انها تجعلهم بلا ريب يقبلون عليها وعلى المعلمين دون اضطراب او خوف او رهبة اورعب... اه نسيت ان اقول في اخر هذه الذكريات انني مازلت الى اليوم اذكر اسم معلمي الذي غير نظرتي الى المدرسة والتعليم انه سيدي المحترم اللطيف الطيب بن جمعة الأنيق الرقيق الجميل الطيب العطوف وانني ما زلت الى اليوم اترحم عليه واذكره بخير وساظل افعل ذلك ان شاء الله طول العمر ولقد قلت مرارا وتكرارا لاصدقائي ولتلامذي وساظل اقول اني سيدي الطيب بن جمعة رحمه الله وغيره من المعلمين الذين عرفتهم في مرحلة التعليم الابتدائي قي تلك المدرسة العريقة التاريخية لهم علي فضل كبير لا ولن انساه وان فضلهم اكبر عندي من فضل اساتذتي الذين عرفتهم في المرحلة الثانوية وفي المرحلة الثانوية وفي بيان سبب ذلك اقول ان هؤلاء الأساتذة اثابهم الله قد وجدوني جاهزا للدراسة كتابة وقراءة وفهما تمام الجاهزية فلم يتعبوا في تعليمي كثيرا كما تعب في ذلك معلمو المرحلة الابتدائية الذين وجدوني صفحة بيضاء ولكنهم استطاعوا ان يجعلوا مني اقرا واكتب وافهم وهل هذا امر سهل ويسير وهين ايها القراء وايها العقلاء؟