قراءة: 3 د, 54 ث بقلم حامد الماطري عاب عليّ العديد من الأصدقاء، من أنّ كتاباتي عرفت في الآونة الأخيرة شيئاً من التشاؤم لم أعتد عليه من قبل... أعتقد أنني، بالعكس، لا زلت مغرقاً في التفاؤل إلى حدّ بعيد، ومؤمناً بأن مستقبل هذه الأمّة الحرّة أفضل من حاضرها. بل وأكاد أقول أنّني أرى أنّ العناية الإلهية تحيط بهذه البلاد حتّى في أحلك أزماتها فتهديها طريقاً مختصراً للخروج إلى النّور. دعنا نوضّح أمرين اثنين: كون بلادنا تعيش أزمة مركّبة، التحق فيها الصّحّي والسّياسي بما تعانيه أصلاً من أزمات اقتصاديّة وحضارية عميقة، فهذا ليس مجالاً للشكّ أو المزايدة. دعنا نتّفق أيضاً على أنّه -وعلى امتداد التاريخ البشري- لم تبنى حضارة دون أن يكون ذلك على كاهل أجيال –أو على الأقلّ سنوات- من التّضحيات والعمل والعطاء. عندما تعيش لعقود تحت ظلّ ديكتاتورية قمعيّة فاسدة ومتخلّفة، تركّز على تزيين واجهة البلاد، وتترك البنية التحتيّة، ومعها المجتمع، في حالة تعفّن كامل، بينما توجّه الدّولة وطاقاتها لخدمة حزمة صغيرة من المتنفّذين والمنتفعين، فمن الطّبيعي أن تستحيل الأمور إلى ما هي عليه من الضّعف والفساد الهيكليّين، مقابل افلاس لأغلب المنظومات الوطنية، تربوية كانت أو صحّيّة، أو ثقافية أو دينية أو اقتصادية أو اجتماعية، أو حتى أخلاقية. عندما تعيش ثورة شعبيّة تسقط منظومة الحكم السّائدة منذ عقود، وتنجح في وضع عمايّة انتقال ديمقراطي، فأمر أكثر من عادي أن تكون السّنوات الأولى صعبة إلى أبعد الحدود... أن تقاوم الظّروف الدّاخليّة والخارجيّة التي تتربّص بمشروعك الوطني، وأن تنجح في أن تصل به إلى برّ الأمان، فهو انجاز تذوب أمامه كلّ التّضحيات. عندما تدخل أوّل عهدة برلمانية ورئاسيّة في العهد الدّيمقراطي تحت عنوان وجوبيّة الاصلاحات الهيكلية الكبرى، فيؤول الأمر إلى غير أهله تحت عنوان مغشوش يدّعي "التوافق"، وتصبح البلاد ومقدّراتها مستباحة تماماً من اللوبيّات والعصابات، حتى يستفحل التهريب والفوضى والفساد والمحسوبية، فهذه خطوة ستعود بالجميع إلى الوراء، مجتمعاً ودولة.. عرفت التّشاؤم الحقيقي في الصّيف الماضي، وأنا أرى أن الواقع مظلم، وأنّ المستقبل لن يكون مختلفاً ما دام سيكتب بنفس الأدوات وبنفس التّركيبة السياسيّة. كنت أرى أن السّبيل الوحيد للخلاص لا بدّ أن يكون بمخاض ثوريّ جديد، سيكلّف المجتمع الكثير وسيعيد البلاد سنوات إضافيّة إلى الوراء، علاوة على كونه لن يكون مضمون العواقب. أعتبر شخصيّاً أن انتخابات 2019، ابتداءً من تشظّي المنظومة السابقة وهزيمتها في خضمّ تطاحنها الدّاخلي، مروراً بانتخاب قيس سعيد في الرئاسيات (على ما أحمله من تحفّظات حول قدرته على تحمّل هاته المسؤولية)، وصولاً إلى تولّي إلياس فخفاخ مقاليد الحكومة، هي عبارة عن سلسلة من الفرص، أهداها لنا القدر، فسنحت للشعب التونسي للخروج من أزمته، وتوفير "حالة ثوريّة" جديدة، تقطع مع السّائد وتعيد الأمل إلى قلوب التّونسيين، ولكن بأدوات سلميّة ديمقراطية تؤسّس لمستقبل يكون فيه الانتقال عبر تراكميّة البناء، لا تلازميّة الهدم. بالرّغم من ذلك، وبالنّظر إلى أرقام اليوم، لا نبالغ إذا قلنا أنّ الحكومة تسلّمت اقتصاداً وطنياً يتداعى للسّقوط، وحالة اجتماعيّة على وشك الانفجار... ملفّات الإصلاح لا تحصى، وكلّها حارقة لا تقبل التّأجيل، تنضاف إليها تركة ثقيلة إلى مستويات غير معقولة خلّفتها الحكومة المتخلّية، بل وتفنّنت في إخفائها حتى لا تفضحها الأرقام الرّسميّة للدّولة (مليارات الدّينارات من العجز المالي للميزانيّة وقع تمريرها إلى المِؤسسات الوطنية، بما يقارب الخمسة عشر مليار دينار متخلّدة بذمّة الدولة من أدوية ومحروقات وأشغال عامّة وخدمات وغيرها). ولا نغالي اذا قلنا أن أزمة الكورونا هذه –خصوصاً بتبعاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة- تمثّل أكبر تحدّ تعيشه بلادنا منذ الاستقلال، إذ أنها قد تقضي على جزء من النسيج الاقتصادي الوطني وسيخسر الكثيرون وظائفهم أو مصادر رزقهم، علاوة على كونها تأتي على مستوى عالمي لا يمكننا معه الاستنجاد بالدّعم الخارجي –كما تعوّدنا من قبل.. يقال أنّ "الضّربة التي لا تقسم الظّهر تقوّيه"... نعم، سيجوع التّونسيّون في هاته المحنة، سيهدّدون في أرزاقهم كما في أرواحهم والأعزّاء على قلوبهم. لكنّ الأكيد أنّ ما بعد الكورونا لن يكون مثل ما قبلها، في العالم، كما في تونس. لقد أفصح النظام العالمي الجديد عن وجهه القبيح، وبان وهن وجشع الرأسمالية، وعادت البشرية لأولوياتها، اعادت النظر في قيمها وفي نظمها. محنة اليوم ستفتح الأبواب على فرص كثيرة، في العالم، كما في تونس. والانتصار في حرب الوباء سيفتح الباب أمام سلسلة من الانتصارات، في حروب الفقر والجهل والفساد. للشّعب وللدّولة ذاكرة، وسيتذكّر الجميع من تفانى في خدمة البلاد والعباد، من أطبّاء ومبتكرين وعمّال نظافة، وصناعيين ورجال أعمال وطنيين. وسيتذكّر أيضاً من أراد الاستثراء في زمن الحرب، والاستثمار في آلام الناس والمقامرة بقوتهم، وسيحاسبون جميعاً. كذلك، هاته الدّيناميكيّة التي انبعثت في هياكل الدّولة والرّغبة في النّهوض بالبلاد والاعتماد على أنفسنا، وإقرار ضرورة التغيير وتحديث طريقة العمل، اللّحمة التي ارتسمت من جديد بين الدّولة ومواطنيها، المدّ التّضامني والثقة بالنفس، كلّ هذا سيجعلنا –كتونسيين باحثين عن نهضة حقيقية لهاته الأمّة- نستعيد زمام المبادرة، ونتلافى تأخّرنا، ونتقدّم إلى الأمام. الأمر لا يحتاج إلا إلى شيء من الصّبر، والكثير من العزيمة والإصرار. وبقدرة الله سننتصر.