أبو مازن، جامعي لا تراوح أزمة البطالة التي تصيب أصحاب الشهائد العليا مكانها بل تشتد عند فريق منهم قد تحصل على أعلى مراتب العلم فنال الدكتوراه في شتى التخصصات العلمية ولتقنية والأدبية ولكنه لازال رقما في قائمة العاطلين التي تثاقلت بحملها. كيف اقتيد شباب تونس لمثل هذه المظلمة وهل من سبيل للخروج؟ لم يكن حلم السبعينات بعيدا عن الحصول على الاستاذية فهي قيمة علمية مشغلة آنيا اذ تبني الدولة مؤسساتها بسرعة وتستكمل تونسة كوادرها. ارتفع سقف الحلم الى الدكتوراه في ثمانيات القرن الماضي فتكاثر طالبي هذه الشهادة المخولة للولوج الى التعليم العالي والانتصاب مدرّسا للطلبة ومؤطرا لأبحاثهم. بلغ الأمر أشده في تسعينات القرن الماضي أين صارت الدكتوراه تونسية خالصة في أغلب المجالات حتى باتت جامعاتنا تونسية التدريس والتأطير عدى بعض الزائرين في نطاق التبادل الدولي. ارتفع عدد الأساتذة بالجامعة التونسية ليبلغ مدى محترما حتى تدنت نسبة التأطير في عدد من المؤسسات الى بضع طلبة لكل أستاذ. يعد هذا الإنجاز مفخرة تونسية لدولة الاستقلال التي استثمرت في التكوين وبات خريجو جامعاتها يجوبون العالم أطباء ومهندسين وباحثين ويظهرون أرقى مستويات الحرفية والنزاهة العلمية. استمر التكوين في مدارس الدكتوراه على نفس الوتيرة ففاق أعداد المرسمين بالمرحلة الثالثة أضعاف أرقى الجامعات العالمية اذ تفرض ترقية الأستاذ تأطير الماجستير والدكتوراه فجد من جد في ذلك وتهاون من تهاون حتى صار الأمر الى ما يلحظه الناس منذ سنوات. لقد قل الانتداب في اختصاصات عديدة علمية وهندسية وأدبية وصار التشغيل بالتعليم العالي العمومي أمرا نادرا حتى أنّ مئات الملفات تقدم لخطة انتداب واحدة. أين الخطأ اذا وجد وكيف يمكن إصلاحه؟ لا أرى خطأ في التكوين وتكاثر عدد الدكتوراه بل لعله ساهم في رفع المستوى المعرفي لمخابرنا وجامعاتنا وجعلها تمتاز في عدد من الميادين لاسيما الهندسية والطبية. يحدث هذا في عدد من الدول المتقدمة والنامية حيث ارتفع عدد شهائد الدكتوراه والماجستير فتعافت الصناعة والتجارة والاقتصاد عموما وتخطت الدولة عتبة الفقر. اذ لا ينكر أحد كيف ازدهرت دول الشرق الآسيوي لولا المداومة على نهل العلم وحسن التأطير وتواتر البحوث الجدية وتواليها. لعل الخطأ يكمن في عدم وجود خطط بديلة أو معوضة للتعليم العمومي الذي يسهر عليه اطار شبه شاب لاسيما وقد ارتفع سن التقاعد الوجوبي الى السبعين. ربما يختفى الحل وراء التشريعات والقوانين التي تفرض هذه الشهادة الفخمة داخل سلمنا الوظيفي بل وتميزها ومنحها قدرا من الأهمية. فشركاتنا الوطنية ومؤسساتنا المتخصصة في البحوث الفلاحية والطبية قادرة على تشغيل عدد لا بأس به كباحثين لكن الاطار القانوني لازال غائبا. يمكن أيضا لدكاترتنا المعطلين أن يقطعوا مع هشاشة التعليم العالي الخاص الذي لازال يشق طريقه بصعوبة. ماذا لو ألزمت الدولة جامعاتنا الخاصة بتشغيل عدد منهم بعد فحص ملفاتهم وترتيبهم في مجالات الاختصاصات المطلوبة. هناك باب ثالث أراه قد يستوعب عددا منا الدكاترة المعطلين وهو مداومة تشغيلهم بمخابر البحث بصورة تعاقدية الى حين حصولهم على خطة قارة في التعليم الخاص او العام أو في احدى الشركات الوطنية التي لازالت تفتقد الى تقنيات الدقة والجودة التي يحسنها هؤلاء. يمكن في نفس الغرض تخصيص هامش الساعات الإضافية مثلا الى الدكاترة المعطلون لتأمينها دون غيره كلما سمح الاختصاص ودقته العلمية. هذه مظلمة حملتها سوء التخطيط طيلة العقدين الأخيرين ولابد من طرقها كأولوية وطنية فبقاء هؤلاء الدكاترة دون شغل يليق بمراتبهم العلمية دليل على رعوانية الاستراتيجيات التي ترسم لدولة فتية تتخطى حقبة الدكتاتورية لتبدع كبقية الدول النامية.