نصرالدّين السويلمي بحلول 2022 ستفتتح تركيا واحدا من أكبر مشاريعها الواعدة، والذي تعمل عليه بصمت رغم ذلك سبّب لها الكثير من المشاكل ودفع بباريس إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع أنقرة تبدو خلفيّاتها حول المياه الإقليميّة والملفّ الليبي وبعض العوالق الأخرى، لكن المحفّز الكبير لهذا التوتّر يبقى مشروع مركز اسطنبولالمالي الذي بدأ العمل عليه عام 2009 ويتمُّ تطويره حاليًّا في منطقة أتاشهير بإسطنبول، والذي سيتحوّل بحلول 2020 إلى أحد المراكز الماليّة الرئيسيّة في العالم، هذا الأمر أقلق باريس التي كانت تعتقد أنّ الخطّة التي وضعت سنة 2007 وتحدّثت عنها وسائل الإعلام التركيّة إنّما هي من قبيل المبالغة والدعاية الحزبيّة التي يقوم عليها أردوغان وحزبه، وليست إلا بروباغندا موجّهة للمشهد التركي الداخلي. لكن ومع اقتراب نهاية الأشغال ونشر بعض مراكز الدراسات المختصّة في العالم معطيات دقيقة عن العمليّة الماليّة والتحشيد التمهيدي للاستثمار الذي أعدّته أنقرة منذ سنوات لحساب انطلاقة قويّة لصالح المركز ثمّ وبعد أن أكّدت دراسات غربيّة أنّ مركز إسطنبولالمالي سيضاهي مركز نيويورك ومركز لندن وسيحوّل إسطنبول إلى مركز تمويل دولي، هذه المعطيات استفزّت باريس بشكل كبير، وهي التي كانت تعاني من هيمنة مركز لندن وسطوته وقدرته الرهيبة على امتصاص المال الأجنبي المتجوّل في أوروبا وحتى المال الأوروبي، فإذا بها أمام مركز عصري قد يمتصّ بقيّة الرحيق المالي والأكيد أنّه سيلتقط الكثير من اللقم السائغة من فم باريس التي تنفّست بشكل ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لذلك ستركّز باريس في هجماتها المستقبليّة على تشويه تركيا وتقديمها كدولة مارقة غير ديمقراطيّة وجب تمزيق ملفّ التحاقها بالاتحاد الأوروبي وصرف النظر عن هذه الفكرة بشكل نهائي وهي تعمل على ذلك وتحشد له. يشغل مركز إسطنبول أو الكابوس الباريسي مساحة مليونين ونصف مليون متر مربّع، بمكتبية تبلغ 560 ألف متر مربّع، و90 ألف متر مربّع من مساحات التسوّق، و70 ألف متر مربع مخصّصة للفنادق، ومساحة سكنيّة تبلغ 60 ألف متر مربع، ومركزا للثقافة والمؤتمرات يتسع لألفي شخص. هذا المركز بهذا الثقل يمثل المشكل الأول لباريس، والمشكل الثاني أنّ باريس التي كانت تخطّط لمنافسة لندن في استقطاب التمويل الإسلامي وقدّمت في ذلك العديد من الدراسات ونشّطت التظاهرات رغم عراقيل لوبي اليمين القوي الذي يحارب الفكرة، المشكل أنّ الدراسة التي تمّ إعدادها حول مركز إسطنبولالمالي تؤكّد أنّ هذا المشروع سيساعد تركيا في رفع حجم التمويل الإسلامي من نسبته الحالية 5% إلى حدود 25%، وهذه قفزة رهيبة من شأنها تحويل اسطنبول إلى غول مالي يهدّد الاحتكار التاريخي الذي كان بحوزة العواصم الأوروبيّة الكبرى. وما يزعج باريس أكثر أنّ المعركة مع مركز إسطنبول ليست ماليّة فحسب بل ثقافيّة أيضا، فكلمة الرئيس التركي التي أعلن خلالها أنّ افتتاح مركز إسطنبول للتمويل سيكون مطلع 2022 على أبعد تقدير، ورد فيها ما يزعج حين ركّز أردوغان على التمويل الإسلامي ليس كنافذة لاستقطاب المال الإسلامي المشرّد التائه، وإنّما كحالة تأسيس قويّة لحركة التمويل الاسلامي في قلب أوروبا، حيث تعمّد أردوغان الإشارة إلى التمويل الإسلامي في كلمته، حين قال " سيصبح علامة تجاريّة مهمّة خلال فترة قصيرة في المنطقة والعالم، وخاصّة في مجال التمويل الإسلامي" كما أكّد وزير الماليّة التركي أنّ "هدفنا التحوّل لمركز تمويل عالمي بلا فوائد" تدرك باريس أنّ التنقيب والحدود اليونانيّة وقبرص والمياه الإقليميّة والقضايا النشطة في أيامنا هذه إنّما هي ملفّات عابرة سيتمّ حلّها وتنتهي في الغد وإن تأخّرت فبعده، لكن المشكلة الحقيقيّة في هذا الغول المالي "الثقافي" الذي لن يكتفي بارتشاف المال المتسكّع المتأرّجح المتجوّل وربّما حتى المستقرّ على مضض، بل سيؤسّس إلى نوعيّة أخرى من المال الدخيل عن الثقافة الماليّة الأوروبيّة وسيصعد بهذا النوع من التمويل من مال أحمق ترتشفه عواصم الدول الكبرى وتمنحه مقابل ذلك هدية الشعار الإسلامي الفضفاض، إلى حالة متجذّرة ستجبر أوروبا على الاعتراف بل التعامل الندّي مع ثقافة ماليّة أخرى تبدو قادمة وتلوح واعدة، وإذا ما انتشرت وأغرت وأقنعت فستكون إسطنبول مركزها والمتحكّم الرئيسي في حركتها... قلقة هذه الغدد الباريسيّة الخاملة، متوترة مرتابة من تلك الغدد الإسطنبوليّة النشطة الشرهة الجريئة الواثقة.