نصرالّدين السويلمي إذا صدّقنا حجج التنطّع القومي فإنّ الخلاف بين الإسلاميّين والقوميّين "في نسختهم المتشنجة" إنّما مردّه إلى القراءة المتخلّفة للنصوص والتحجّر الذهني الذي غلب على العقل الإسلامي، وهذا سيقودنا إلى المعطى الأهمّ وهو اتفاق الطرفين على تعظيم القرآن وتبجيل الرّسول الكريم وتكريم العربيّة.. دعونا نسلّم بذلك.. إذا ها هو حليف العلمانيّة العربيّة بتفصيلاتها وفصائلها وكلّ من احتشد ضدّ التجربة التركيّة على خلفيّة انحيازها لهويّة الأمّة، ها هو أكرم إمام أوغلو البديل الذي تدفع به فرنسا وما خلفها من أوروبيّين والإماراتوما خلفها من أعراب للتخلّص من الهاجس الأردوغاني ومن ثمّ إبعاد شبح الأسلمة والتعريب لتعود تركيا كما كانت مصبّا لمجاري الثقافة الغربيّة، فكما دوما تحبس أوروبا ثقافة الرقيّ عندها حكرا خالصا وتتخلّص من الديشي أو الفضلات لدول الرقيق الثقافي، ها هو أكرم الذي هو رئيس بلديّة اسطنبول وخلال فعاليّات بمناسبة ذكرى وفاة جلال الدّين الرّومي يقوم بإعداد فقرات يتلى فيها القرآن ويرتفع الأذان باللغة التركيّة، في سعي إلى تقديم بروفةلمشروع تقدّم به حزبه "حزب الشعب" في الكثير من المناسبات كان آخرها سنة 2018 ويعمل على العودة إلى رفع الأذان وقراءة القرآن!!! وكان أحد نوّاب حزب الشعب أكّد " أنّ قراءة القرآن والأذان باللغة العربيّة يعد احتقارا للغة التركيّة "، وحزب الشعب هو الذي ينتمي إليه إمام أوغلو، وتعمل أوروبا والأعراب على ترقيته إلى مستوى بديل للعدالة والتنمية.. دعونا من التفاصيل الفقهيّة والمضامين الفكريّة والرؤى "المتباعدة" لدور الدّين في المجتمع، دعونا من كلّ المسائل الخلافيّة، ألا نترحّم جميعا على الشهيد عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا الذي دفع عمره ثمنا لتعريب الأذان والقرآن في المساجد التركيّة وكانت له خطّة لإعادة العربيّة إلى المدارس، دعونا نتفق على تكريمه كشهيد للغة العربيّة إذا كان الحسّ الديني قد أفل من قناعاتكم وتآكل في مفاهيمكم.. بقليل من المنطق انحاز الإسلاميّون إلى من انحاز لدينهم، وبقليل من المنطق يمكن للعروبيّين الانحياز إلى من انحاز إلى لغتهم. دعونا من ثنائيّة العصبيّة والتزلّف للحكّام واستعمالهم في الانتقام من خصومكم، فالعصبيّة والتزلّف قتلا راهب العربيّة ولسانها وعقلها، قتلا سيبويه! كان ذلك على هامش مناظرة نظّمها يحيى البرمكي وزير هارون الرشيد، ودعا لها أعيان اللغة وأرادها مبارزة علميّة بين مدرسة الكوفة بزعامة أبو الحسن علي شهر الكسائي وبين زعيم مدرسة البصرة عمرو بن عثمان شهر سيبويه، وكانت مناظرة طويلة اشتهرت تاريخيّا بالمسألة "الزنبوريّة" وكان اختصارها: سال الكسائي سيبويه كيف تقول : كنتُ أظن أنّ العقربَ أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي ، أم فإذا هو إياها ؟ قال سيبويه: فإذا هو هيَ ، ولا يجوز النصب. قال الكسائي: لقد أخطأت ، بل الصحيح النصب فنقول : فإذا هو إياها . وبعد نقاش طويل عاد الكسائي يسأل: كيف تقول : خرجتُ فإذا عبد الله القائمَ ، أو القائمُ ؟ أجاب سيبويه: فإذا عبد الله القائمُ ، ولا يجوز النصب أيضا . قال الكسائي: العرب ترفع ذلك كله وتنصبه كذلك . وبعد سجال طويل اقترح الكسائي دعوة الأعراب الأقحاح ممّن عرفوا بنقاء اللّسان فكان له ذلك. ولأنّ المناظرة اشتهرت شهرة سيبويه والكسائي فقد تدخّل القصر وأقنع الأعراب بالانتصار للكسائي أولا لأنّه عربي ولا يمكن لعالم فارسي الفوز في مناظرة نحو عربيّة على عالم عربي، ثمّ لأنّ الكسائي كان صديقا لهارون الرشيد.. وفعلا انتصر الأعراب للكسائي واحتمل سيبويه المظلمة في صدره ورحل إلى بلاد فارس أين مات كمدا ولم يتجاوز 32 سنة من العمر. لا تنتصروا للعرق إذا كان اللّسان أفصح وأجود، وأفضل الانتصارات هو الانتصار للحقّ، وإن شاغبتكم العصبيّة وتداخلت عليكم فلا أفلح من الانحياز إلى العقيدة فهي منبع العدل ومرتعه الخصب.