الطاهر العبيدي في بداية رحلة التيه والمنفى دخلت بطريقة غير قانونية إلى مدينة ونزة الجزائرية، وهي منطقة حدودية للبلاد التونسية. بقيت حوالي شهر ونصف عند أقاربي، الذين مشكورين جدّا أحسنوا وفادني، ولم أشعر عندهم لحظة بالغربة. انتقلت بعدها إلى مدينة عنابة ، وبقيت على تواصل معهم بالهاتف. وفي يوم من الأيام أعلموني أن الأمن الجزائري بمدينة "الونزة" جاء يفتّش عنّي، وترك لي استدعاء للاتصال بهم عاجلا. وهنا فهمت أن طلبهم لي ليس لتكريمي، أو الاحتفال بي، أو توسيمي، بل للتحقيق معي من أجل ترحيلي لتونس، حيث أكون صيدا ثمينا لوزارة الداخلية التونسية، التي في تلك الفترة صارت صرحا بني على الجماجم والأجساد المشوهة. ماذا طلب مني رئيس الأمن الجزائري؟ ترددت في تلبية الحضور، ثم غامرت لأني لم أرغب أن أضع أقاربي في موضع المسائلة والتتبعات. عدت من عنابة إلى ونزة توجهت إلى مركز الأمن الجزائري، وبمجرّد أن استظهرت بالاستدعاء حتى وجدت الجميع على علم من الحارس إلى الأعوان. وتحرّكت لغة العيون تحكي عني دون نطق. وسرعان ما أدخلوني للمسئول ألامني ▪ وأول ما سألني ماذا تفعل في الجزائر؟ ● قلت له أتيت للجزائر لأتزوج. ▪ فضحك حتى ضننت أني رويت له نكتة طريفة جدا.. ثم قال بلهجته الجزاىرية " تتمسخر بي من قلّة البنات في تونس" وأضاف ولو "اتْزَوّزتْ هنَايَ وَاشْ بَاشْ تَخْدمْ"؟ ● قلت له سأشتغل في الفلاحة. ▪ أجابني على الفور الفلاحة "ملقوهاش أماليها الْحِيطِيسْطْ بَاشْ تَلْقَاهَا انْتَايَا.. أعْطِينِي بَاسْبُورَكْ الظُّرْكْ انْكَلْمُوا الداخلية متاع تونس يعطونا الصحيح"... ● سلّمته جواز سفري الذي تعرّض إلى عملية جراحية، ومحيت بعض تجاعيده بفعل عملية الترميم، كما "البلوتوكس " في وجوه بعض النسوة الباحثات عن ردم عثرات الأيام، وبصمات الزمن.. لن نسلّم من استجار بنا حتى لو زغرد الرصاص رجعت إلى بيت أقاربي وأعلمتهم بالأمر. فكان ابن خالتي المرحوم احمد معلّم رجلا شهما يحبّه الجميع، ويحظى باحترام كبير بين قبيلة "أولاد سيدي عبيد" التي ننتمي إليها. فقام بالعديد من الاتصالات الهاتفية، واجتمع مع بعض أعيان القبيلة، حيث قالوا لن نسلم من استجار بنا ولو زغرد فيها السلاح.. ثم تمّ الاتفاق أن أذهب صباح اليوم الموالي إلى المركز الأمني في سيارة "مرسيديس"، وأكون في المقعد الخلفي مع السّائق. وطلبوا مني عدم النزول من السيارة، وسيأتي رئيس الأمن ويسلمني جواز سفري. وفعلا هذا ما تمّ جاءني رئيس الأمن الجزائري، ومن نافذة السيارة قال لي: "بَاسْبُورَكْ مَضْرُوبْ، يعني فَالْسِيفِي، مذَرَّحْ بلَهْجِتْكُمْ انتم، رجاء كُثْرتْ عليك الْعيَاطَاتْ أخرج من مدينة الونزة، وروح ربي يواجهك خير". ومن يومها غادرت تلك المدينة وإلى اليوم لم أعد لها.. ولرحلة التيه والمنفى حكايات ومغامرات مع الحدود والمطارات، ومسافات وتفاصيل "تْشَيَّبْ مَكْتُوبْ عَلَى الجْبِينْ مْقَيَّدْ"...