كريم السليتي كاتب وباحث تونسي الخلط اللغوي بين لهجتنا التونسية العربية والشوائب الفرنسية الدخيلة مأساة ناتجة عن فرنسة التعليم أساسًا. وقد سعى المستعمر بكل خبث إلى فرنسة التعليم الثانوي والجامعي منذ أزيد من نصف قرن لأنه يعلم أن العربية تعني مزيدًا من التجذر في هويتنا العربية الإسلامية ومزيدًا من الاعتزاز بتاريخنا وحضارتنا. والأدهى والمؤلم في الأمر أن الأغلبية حتى من بين النخب الجامعية غير واعين أنهم يقادون لغويًا كالشياه، وأنهم ضحية مسخ لغوي ونزيف ثقافي، يسلب منهم القدرة على التعبير المسترسل بلغتهم الأم ولهجتهم الجميلة. عمى النخب والمخاطر الخفية للهجنة إن الكارثة الكبرى تكمن في غياب الوعي، ليس فقط بين العامة، بل حتى بين صفوف النخب والإعلاميين والسياسيين وصانعي القرار الذين يُفترض بهم أن يكونوا حراس اللغة والهوية. فالكثير منهم لا يرى في هذا الخلط اللغوي سوى "مرونة" أو "تعددية" عصرية، متجاهلين المخاطر الحقيقية والعميقة لهذا العجين اللغوي ومن بينها: فقر التفكير العميق (الإدراكي): اللغة الأم هي أداة التفكير. عندما تتجزأ هذه الأداة وتتداخل، تضعف القدرة على التجريد والتحليل المنطقي المعقد. ويصبح الفرد عاجزًا عن التعبير عن الأفكار المركبة بلغة واحدة سليمة، فيلجأ إلى لغة المستعمر لتغطية قصوره، وهذا يؤدي إلى ترهل الإبداع الفكري في كافة المجالات. الاغتراب الثقافي والتاريخي: اللغة هي الوعاء الذي يحمل الذاكرة والقصص والتراث. قطع الصلة بين الأجيال الشابة ولغتهم الفصحى ولهجتهم الأصيلة هو قطع لصلتهم بتاريخهم وحضارتهم، ما يخلق انفصامًا هوياتيًا يجعلهم أكثر عرضة للتبعية الثقافية، واستبطان الهزيمة الحضارية. تشويه الجودة الإعلامية: المخرج النهائي في الأثير هو "رطانة" ركيكة تفتقر للجمالية، وتُفقد الحجج قوتها، وتُشعر المستمع بالضياع. النخبة التي تمارس هذه الرطانة تساهم في تشويه الذوق العام وتقديم نموذج لغوي رديء، يعبر عن افتقارها للقدرة على التعبير بلغة واحدة نقية حتى ولو كانت لهجتهم الأصلية. تكريس التبعية اللغوية والاقتصادية: الاعتقاد بأن اللغة الأجنبية هي بوابة الرزق والتقدم العلمي يكرس التبعية للدول التي تتحدث هذه اللغة، ويعيق مساعي الوطن نحو الاستقلال المعرفي الحقيقي الذي لا يتحقق إلا بالتمكين من اللغة الوطنية في المجالات كافة. خارطة طريق لاستئصال الآفة لغةً وإعلامًا إن استئصال هذه الآفة يتطلب إرادة وطنية وعملًا منهجيًا على جبهتي التعليم والإعلام: إصلاح التعليم: يجب وضع خطة وطنية لتعريب تدريس المواد العلمية والجامعية بشكل عاجل وإن كانت على مراحل، وإنشاء هيئات متخصصة لترجمة المصطلحات العلمية. كما يتعين تفعيل مادة "اللغة العربية الفصحى الفعالة" التي تركز على التعبير عن الأفكار المعاصرة، مع فرض شرط الكفاءة اللغوية الصارمة على كل معلم وأستاذ جامعي. تفعيل دور الإعلام: يجب أن تتبنى الهيئات الناظمة للإعلام ميثاق شرف لغوي يمنع الاستخدام غير المبرر للشوائب الأجنبية. ينبغي فرض برامج تدريب إلزامية لرفع مستوى المذيعين والإعلاميين في اللغة العربية الفصحى، وإطلاق جوائز للتميز اللغوي لترسيخ أن التمكن من الفصحى هو شرط مهني أساسي. إن قوة التعبير وسلطة الإقناع لا تنبع من التبعية اللغوية، بل من التمكن المطلق والاعتزاز الصادق بلغتنا العربية العريقة ولهجتنا التونسية النقية الأصيلة. وقد حان الوقت لأن تستعيد النخب صوتها العربي النقي وتدرك أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي جوهر الوجود وحامية القيم ورمز المقاومة الحضارية. تابعونا على ڤوڤل للأخبار