هو رجل يمقت التكلف والمقدمات... ويخير عدم الاحراج والجلوس في المقاهي... لكن يوما ألفيته فرحا، فالسهرة ستنظم في غرفة في وكالة بنهج ا لقاهرة... عشاء مشترك... نشط سي البشير ذلك اليوم وقد حضّر ما حضّر وبين يديه شاب قصير القامة، حارس سياراته بالقرب من مقهى المغرب، أتى به الى غرفة الوكالة وأطلق عليه اسم مورابو... وأرسل المورابو الى المطعم المجاور واشترى بعض الطعام ثم أرسل المورابو الى العطار والى الخضار... وتمادت السهرة مع الاصدقاء والمورابو في دخول وخروج وتلبية طلبات الى ساعة متأخرة من الليل... وطلب صاحب الغرفة مسبقات من سي البشير ان نكتب في تلك الليلة «رواية» أي مسرحية او قصة... وهو ينتظرها عند اخر السهرة... يحكي لنا سي البشير ما دار بينه وبين صاحب الغرفة وهو يضحك... وقص علينا يوما ما حدث أثناء جلسة مع كتاب مشارقة... ربما وقع ذلك اثناء مؤتمر الادباء العرب سنة 1973 في تونس في نزل البحيرة... ساد الصمت في الاثناء، فسي البشير لا يعرف الروائي الجالس الى جنبه ولم يحدث أن قرأ له رواية أو حتى قصة والمشرقي كذلك... ثم أهدى هذا الكاتب الى سي البشير رواية... فقرأها في الليلة ذاتها، وفي الغد كان الروائي يخبر أصدقاءه المشارقة وهو يشير الى سي البشير ويقول: إنه قرأ، قرأ الرواية في ليلة... وتم التعارف بين الجميع، وانتهى الصمت ودار الحديث وزال الحرج وعم الانشراح... والطريف في هذا كله هو سماع سي البشير وهو يحكي الحكاية بطرافته وابتسامه وضحكه وانشراحه، فذلك شيء رائع اعجز عنه وصفه... ومقهى المغرب، إن أردنا العودة الى مقهى المغرب، يوجد في شارع فرنسا والشارع كما هو معروف طويل عريض يمر عبره من يريد دخول المدينة العصرية ومن يجتاز للرجوع الى المدينة العتيقة و»البلاد العربي» كما نقول بيننا والتنقل من ربط الى آخر الى الاسواق والى القصبة وجامع الزيتونة... وقد انقلب هذا المقهى اخيرا مع الاسف، الى مغازتين لبيع الاحذية والملابس الجاهزة... يمر خلق كثير امام المقهى... يقف بعض المارة لبعض الجالسين وكثرهم الذين يعرفون سي البشير ويقفون لتحيته... ويوما وقف رجل بدين طويل عريض في معطف بني، أحمر اللون... وعندما فارقه وابتعد قال لنا سي البشير مبتسما: هذا متفقد... ودار الحديث حول التفقد والمتفقدين والمديرين والمعلمين والخروج الى المدارس النائية في البوادي... والتربص وساعة دخول الاقسام في الصباح وإقبال المتفقد على حين غرة... ولا ننسى أن سي البشير كان معلما وتنقل كما تنقل سائر الاساتذة والمعلمين في سائر البلاد، ثم انتهى في خاتمة المطاف الى مدرسة نهج النفافتة بباب سويقة، وهي مدرسة للفتيات في ذلك العهد... وقص علينا في الاثناء قصة معلم مبتدئ كيف سمع بقدوم المتفقد فاغمي عليه، ومعلم في جبل بعيد عن الاهل والعمران في مدرسة نائية صغيرة، وصباح ذات يوم وأتى متأخرا فوجد المتفقد في انتظاره... وشرع في الدرس... أمام المتفقد... وفي الاثناء عالج عقارب ساعته خفية... في النهاية سأله المتفقد عن الساعة... وكانت منطلقا لأن أكتب قصة عنوانها «المتفقد». من بين المترددين على مجالس مقهى المغرب بانتظام شاب بل كهل يدعى محمد صنديد، ان جلس بيننا فهو يتخفى بشيء من الحياء ولا يتكلم الا نادرا ولا يشارك في حديث الا قليلا لكن ميزته الخاصة هي ان له كنشا يخرجه من جيب معطفه ويظل يسجل ما يدور بيننا... وعلى الاخص عندما يتعلق الحديث بالادب ولا يفوه بكلمة... ومحمد صنديد لا أعرف ماذا يعمل في الحياة، يكاد يأتي كل عشية، أسمر اللون داكن السمرة، هائج شعر الرأس، وكله داخل معطف رمادي في لون شعره لا يبرز منه ا لا رأسه وعينان براقتان، فهو عبارة عن قنفذ... متمسك محمد صنديد بصمته... يلتفت اليه سي البشير من حين الى آخر عندما يحلو الحديث ويقول له: «آه صنديد، قاعد تسجّل»... ويهيج هائجه ويسرع في التدوين اذا حمي النقاش واشتد بين الحاضرين... نقول له احيانا آه يا صنديد احتفظ بالكنانيش... يبتسم ولا يجيب... ونتابع: أنت تحافظ عليها؟ فلا يجيب... ظل شهورا ان لم اقل سنوات وهو يدون كل المجالس، ويلتفت اليه سي البشير من حين لآخر ويتحفه بكلمة طيبة كعادته... ها صنديد... صنديد يسجل... هو قاعد يسجل. غاب محمد صنديد يوما، اختفى ولم يعد... فافتقدنا محمد صنديد وانكماشه وسكونه وابتسامه وانكبابه على كنانيشه... طيلة أشهر وسي البشير يتساءل من حين لآخر اثناء الجلسات في مقهى المغرب «أين محمد صنديد؟» انطلق من بيننا من انطلق للبحث عن بيت محمد صنديد للسؤال عن احواله ولاعادته لمكانه بيننا ولتسجيلاته على الكنانيش... لكن افتقدنا محمد صنديد واختفت الكنانيش مع صاحبها منذ ذلك العهد... ولم أر محمد صنديد في اي مكان اخر من المدينة منذ ذلك العهد. * * * نُظمت لقاءات في بيت صديقنا عبد اللطيف عبيد، والصديق أستاذ جامعي نشط محب للادب، أعد رسالة جامعية عن «الدقلة في عراجينها» في تلك الايام، اعزب في تلك الايام، وبيته في ممر في نهج يوغسلافيا في باب بحر، كنا ثلاثة لا اكثر وسي البشير يخير الجلسات بين ثلاثة لا اكثر، ويقول احيانا ان الجلسة تلتئم وتكون مفيدة عندما يدور الحديث بين ثلاثة، وحسب نظره ان ازداد العدد يكثر الحديث ويتشعب... وجلسة بين اثنين تظل ناقصة، تحتاج الى ثالث لتكون مكتملة... كان يأتي الى بيت الصديق عبد اللطيف عبيد قبل قدومي... ونتجه الى مطعم ا سترازبورغ في نفس النهج اي نهج يوغسلافيا، غير بعيد عن البيت... كان سي البشير في تلك الايام بصدد اعادة نشر روايته «حبك درباني» التي نشرت فيما سبق على حلقات في مجلة «الفكر» أواخر الخمسينات او بداية الستينات... وقدمها لي لمطالعتها فقرأتها وعنّ لي ان أبدي بعض المقترحات وتغيير بعض الكلمات كنت علمت عليها. عندما قلت له ذلك، التفت الى عبد اللطيف وقال له: «محمود لقى حاجات»... اقترحت عليه وأنا اقول له في الاثناء: هذه الكلمة سي البشير أراها أنسب وهي... كذا وكذا ما رأيك... هاك الجملة أعد قراءتها... ينظر اليها ثم يقول لي لا أنا احبها هكاكه... لا لا... ثم ننتقل الى مفردة اخرى وأنا أقول له وأكرر: وهذه الكلمة سي البشير ما رأيك؟ من ناحيتي الاحسن ان تعوضها بهذه الكلمة، وهي أقرب الى العربية... فيقول لي... لا لا أنا أراها «هكاكه تبقي» أخيّرها... في النهاية لم يغير كلمة واحدة من الرواية وأرجعتها اليه على حالها كما هي... وهو غير مذبذب ولا متردد ابدا، صاحب مبدإ، إن وضع كلمة فهي التي تبقى، مطبوعة بطابعه هو، بشخصيته المميزة وفنه الاصيل... وفيما بعد أهدى إليّ روايته الطويلة «الدقلة في عراجينها» في طبعتها الاولى... وهي كما تعلمون، يفوق عدد صفحاتها الاربعمائة صفحة، وإذا كانت اللهجة تونسية في «حبك درباني»، فالحكاية حكاية أخرى في «الدقلة في عراجينها». انطلقت مع الصفحات الاولى، فكانت لغتها صعبة عسيرة لم أفهم الكثير من الكلمات اذ جلها ان لم اقل كلها من الجنوب التونسي ومن نفطة بالذات وذلك في الحوار وكذلك في السرد اي المتن... ومع مرور الصفحات والتمادي في المطالعة اتضحت الرواية اكثر فأكثر واتضحت الكلمات وصرت افهم جل الالفاظ... فالقارئ يجد متعة كبيرة في مطالعة هذه الرواية... وكان أهدى منها نسخة الى الروائي السوداني المعروف الطيب صالح، فلم يجد أية صعوبة في قراءتها وفهمها... لم يكتب لسي البشير ان يتم روايته بلارة... لكن كان يعود إليها في ما بيننا ويتحدث عنها من حين الى آخر... وكذلك روايته الضخمة تمبياز... فالرجل، إن عدنا الى الجلسات واللقاءات والاحاديث في مختلف المناسبات والسهرات، واثق من نفسه إن لم أقل معجب بها... يبتسم بل يطلق ابتسامة قبل ان يشرع في الكلام، فيخيّل اليّ انه انصت قبلنا الى ما يدور في خلده وانشرح له قبلنا فهو... خفيف الدم، جميل الجلسة، طريف الحديث، عطر العبارات ان جاز هذا التشبيه، يحدثنا ويمتعنا بحلو احاديثه وخفة روحه فأين تجدوننا نحن الرفاق ونحن ملتفون حوله وهو أعز صديق لنا وأقرب صديق إلينا وهو كمشموم الفل اذ ينطبق عليه تماما عنوان مجموعته القصصية المشهورة الحاملة لهذا العنوان. كان الفصل فصل شتاء، ونحن نتردد على بيت صديقنا عبد اللطيف عبيد وسي البشير ملتف ببرنسه الجريدي البني.. في المطعم نجلس الى نفس المنضدة دائما، قرب المشرب... كان سي البشير يلتزم دائما بأكلة خفيفة في الليل فهو يعتني بصحته... لا يتعدى شربة ثم صحن عجة وكفى... ومطعم ستراسبورغ يكاد يكون قبالة بيت صديقنا عبد اللطيف عبيد، فسيح الارجاء، قليل الرواد ايام الاسبوع، فكنا نتحدث بانطلاق وحرية، لا نشعر بحرج، ولا نزعج احدا من رواد المطعم ا ذ يجلسون ان هم وجدوا، في ركن قصي من القاعة... نفارق المطعم حوالي العاشرة... ننطلق مرافقين سي البشير وهو يتوسطنا، فنجتاز نهج يوغسلافيا، وندخل نهج شارل ديغول وهو بيننا ثم نهج إسبانيا الى أن نصل الى نهج باب الجزيرة وعند البطحاء يوجد فندق قديم باق على حاله، لم يتغير الى يومنا هذا، كانت أحداث بعض روايته تدور داخل هذا الفندق... نودعه آنذاك وسط البطحاء، ويبتعد سي البشير ويدخل في المدينة العربي مجتازا الانهج الطويلة المتشابهة الضيقة المظلمة احيانا... متجها الى بيته في نهج الزهمول قرب تربة الباي. أحيانا نقصد بيت سي البشير، إن طلب منا ذلك أو عقدنا العزم على زيارته ان غاب اياما، فيكون الترحاب والقبول الحسن... وفي البيت «العلي» تكون «الجلسة العربي» على الجلد او على الزربية او البنك... وأمامه المائدة والمنضدة... والقهوة تدور في جلسة لطيفة، مريحة، فسي البشير خفيف الظل خفيف الروح عطر الحديث، يشعر الجالس اليه بنشوة ما بعدها نشوة وانشراح ما بعده انشراح... محابس الحبق والنوار من حوله وعند النافذة وفي كل ركن من البيت... والكتب مئات بل آلاف على الرفوف... يشعل السبسي بمهل، وهو الوحيد الذي أبقى السبسي على حاله، يزج فيه التمباك بأناة... ويدخن اذا استوت الجلسة وراق الحوار... وهو مبتهج فرح منشرح دائما، حفي ابدا بضيوفه. كذلك كان في مدينة نفطة، كنت زرته مرة في بيته في نفطة مع عائلتي دون سابق موعد، وسي البشير يقضي في غالب الاحيان فصل الشتاء وكذلك فصل الربيع في الجريد بعيدا عن العاصمة... فكان الفرح باللقاء غير المنتظر والحفاوة والغداء... خرجنا نتنقل في المدينة، وكان يحيي كل الناس وكل الناس يحيونه... فهو ابن البلدة الاصيل العائد اليها في كل شتاء وربيع... ثم خرجنا الى الواحات صحبته... وكان منشرحا سعيدا في مسقط رأسه... يتلقى التحيات ويهديها... يقترب من الطفل الصغير وهو راكب على حمار ويداعبه... كأني به يحنّ، اي له حنين الى أيامه عندما كان صغيرا في مثل سن هذا الطفل الراكب على الحمار، وهو يتنقل في ارجاء نفطة وتحت ظلال الواحات مثله تماما. * * * انتقل من مقهى المغرب الى مقهى باب المنارة ومن حوله بعض الاصدقاء يتنقلون بتنقله... وسائق التاكسي لا يتخلى عنه ولا يخلي سبيله، وكذلك الفيلسوف صاحب الرأس الضخم، فهو يقتفي أثره، رغم ابتعاد سي البشير عن باب بحر وهجر مقهى المغرب.... ومحمد صنديد غاب ولم يعد بالمرة... ربما شق علي سي البشير البعد وطول الطريق، فخير هذا المقهى الصغير النائي عن باب بحر والقريب من بيته في نهج سيدي زهمول، في الربط الاخر... وكانت الجلسات مريحة ومفيدة كشأنها في غالب الجلسات، لكن قلّ عدد الكتاب والادباء، وبقي القليل منهم بحكم ا لبعد عن مقهى المغرب ووسط المدينة يترددون على المقهى القريب من باب منارة. إن قصد أحد مجلسه يشعر دائما بالفرح يغمره، فهذا ما شعرت به طيلة الاعوام والسنين وأنا متجه بمفردي او صحبة بعض الاصدقاء الى لقائه والجلوس إليه في بيته او في مقهى المغرب او في بيت صديق من الاصدقاء او في مقهى البريد في باب المنارة في أخر أيامه، قبل ان يرحل عنا وتختطفه يد الموت عشية بين اصدقاء دون سابق مرض. فجأة ارتحل سي البشير وفارق الدنيا دون سابق مرض، لكن ترك اثارا طريفة قيمة بطابعها التونسي الاصيل فرضت نفسها وسدت فراغا في ميداني القصة والرواية، وذكريات جميلة لا تنسى ولا تمحوها الأيام.