تناول آيات حكم الله ببني إسرائيل الواردة في سورة الإسراء كثير من المفسرين والعلماء بالبحث والشرح والتنقيب، فالآية الرابعة من سورة الإسراء وهي قوله تعالى: {وقضينا الى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين، ولتَعْلُن علواً كبيراً} حتى الآية التاسعة {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا}. هذه كلها جاءت لتصور فساد بني إسرائيل وعلُوّهم في الأرض ودمارهم. أول ما يلفت النظر في آيات بني إسرائيل في سورة الإسراء وسورة المائدة وغير هاتين السورتين، أن الله تعالى غاضب عليهم بسبب أفعالهم وأقوالهم المنكرة فاسمع لقوله تعالى في سورة المائدة: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلت أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين}، وانظر في هذه الآية الكريمة إلى فشلهم في إشعال الحرب، فكلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، وهذا شرط دائم مستمر، واسمع لغضبه تعالى على هؤلاء الناس في قوله في سورة البقرة {وضُربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}فانظر لقوله تعالى {ضُربت} و{باؤوا} فالله عز وجل فرض عليهم ذلة ومسكنة دائمتين لا انفكاك لبني إسرائيل منها وأنهم رجعوا عن دينهم بتجارة خاسرة، وإثم دائم. وثاني ما يلفت نظرك لهذه الآيات أنك تشعر بفرق كبير بين ما تراه في واقع الأرض المحتلة وكبرياء بني إسرائيل وتعاظمهم وقوتهم، وبين الآيات التي تصفهم بالذلة والمسكنة والغضب الإلهي والخسران! الفرق واضح وكبير، وضربت عليهم المسكنة تعني الاستمرار، فهذا الفعل الماضي (ضُربت) يعني أن الله تعالى فرض ذلك ويظل الفرض جاريا ما استمرت هذه الحياة، فهو شبيه بقوله تعالى _يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام_، فالفرض دائم ما استمرت الحياة بالمسلمين. ذلة لقد قال فقهاء كثيرون أن القرآن فسر بعضه بعضا، وما جاء في سورة الإسراء في الآية الرابعة حتى التاسعة أي من قوله تعالى {وقضينا الى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين} حتى قوله تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} هو التفسير وهو التكملة في موضوع بني إسرائيل، أي أن الآيات الواردة في سورة الإسراء تكمّل وتفسّر ما ورد في سورة البقرة وفي سورة آل عمران وفي غير هاتين السورتين، وبجمع هذه الآيات كلها في دعاء واحد ندرك أن الحلقة التي بين أيدينا متكاملة، وهي على الصورة التالية: الله سبحانه وتعالى فرض فرضا دائما على بني إسرائيل ذلة ومسكنة لأنهم كذّبوا بعض الأنبياء وقتلوا بعضهم الآخر، ولأنهم عصوا أمر ربهم، وسعوا فسادا في الأرض، والذل قائم الى قيام الساعة، وليس محصورا في مكان معين أو زمان معين. والله سبحانه وتعالى استثنى من هذا الاستمرار الدائم، ومن هذا الفرض جزءا من الزمن في بقعة معينة وهي أرض فلسطين، أو قل هي الأرض المباركة بوجود المسجد الأقصى المبارك، وهذا مشابه لما نسمّيه الاستثناء في اللغة العربية، فعندما نقول: قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعاً نعني بذلك أن العمر كله قد يصبح ليس ذا قيمة إلا ساعة منه، وأن الأرض كلها قد تصبح ليست ذات قيمة إلا مكانا واحدا منها له قيمة عند صاحبه، وقد كانت آية المعارج في كتابه تعالى مثلا على الاستثناء الذي نحن بصدده، إذ قال تعالى {إن الإنسان خُلق هلوعا، إذا مسّه الشر جزوعا، وإذا مسّه الخير منوعا، إلا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون}، فهؤلاء المصلّون المحافظون على صلاتهم والمحافظون على عهدهم بالله لا يصيبهم ما أصاب الإنسان في كل مكان. صورة مستقبل قريب وآيات سورة الإسراء وهي {وقضينا الى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُن علواً كبيراً، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً، عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا، وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} هي آيات الاستثناء من فرض الذلة والمسكنة عليهم. فهذه الآيات وقفة مع الزمن لإعطاء بني إسرائيل فرصة ليعودوا الى الحق، وهي حكم عليهم بأنهم فشلوا في التجربة. والآن سنجتلي آيات الإسراء هذه في لغتها ونحوها ومعانيها لنعرف صلتها بما يحيط بنا من ظروف القضاء الإلهي في هذا الأمر، وموقفنا منه، والسطور التالية هي استقراءات: هذه الآيات الكريمة الدالة على مفاهيم تبدو لمن يسبر أغوار معانيها ودلالاتها صورة لمستقبل قريب يزهو فيه المسلمون المناضلون بالنصر المبين. ولعل إشارة النبي العربي الكريم الى قيام معركة حاسمة بين اليهود والمسلمين عبر ضفتي النهر لعل الإشارة أو النبوءة قد أصبحت وشيكة فإرهاصات الثورة ضد الظلم والبغي والاغتصاب تبدو واضحة للعيان والحجارة التي أشار إليها الرسول الكريم، وكثيرا ما يطرح هذا السؤال: هل دولة _إسرائيل_ الحاضرة تمثل المرة الأولى أم المرة الثانية أم المرة الثالثة أم أكثر من ذلك؟ وهل ستبقى الى مدى طويل أم مدى قصير؟ وهل ستنجح مساعي السلام التي تقوم بها دول صغرى وعظمى في إرجاع بعض حقوق أصحاب الأرض المقدسة من أهل فلسطين أم أنها ستبوء بفشل وخذلان؟ كل ذلك غيب، ولكن الآيات الكريمة التي تبدأ بقوله تعالى {وقضينا الى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيرا} وتنتهي بقوله {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} تعطي إجابات قوية حاسمة على هذه الأسئلة، وتحل المشكلة المعضلة التي تحيرت بها عقول العرب والمسلمين في هذه الحقبة من حقب التاريخ. الآيات تقول لبني إسرائيل إن الله تعالى أعلم بني إسرائيل بما سيحدث في مستقبلهم وقد تضمن كتاب التوراة هذا العلم، لقد أنبأهم سبحانه وتعالى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وسيعلون علوا كبيرا، والمقصود بفسادهم كأصحاب دين أن يخرجوا عن دينهم الحق الى الأباطيل، ومكان فسادهم هو (الأرض)، أي تلك الأرض التي فيها آمال ووعود، وليست أي أرض، فالحرف (ال) الذي في الأرض يبين أنها أرض معروفة، ولهم عهد بها، وقد جاءت هذه الآية في سورة اسمها الإسراء، إذن أرض الإسراء هي أرض فلسطين، وهي الأرض التي ليس لهم مسجد مقدس إلا فيها، وقد ذُكر المسجد في السورة ذاتها وفي الآيات التالية لقوله عز وجل {وقضينا الى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً} وأقصد بذلك قوله تعالى {وليدخلوا المسجد}، فالأرض المشار إليها إذن هي أرض المسجد الأقصى المبارك وما حوله من الأرض المباركة.