بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي يحار المرء في توصيف ما جرى وما يجري للعراق، فإذا كان العالم الغربي المتحضّر كما يوصف قد استفزّ عند نسف طالبان لتماثيل وجداريات بوذا فإنه هو العالم نفسه الذي رضخ للمشيئة الأمريكية وامتثل لها وصدّق روايتها الملفقة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتهديد العراق لأمن العالم إلى آخر هذه السفسطة التافهة التي سوّغت ما سماها السيناتور الكريم الذي رحل أخيرا أدوار كندي ب«فيتنام بوش» التي أغرق بلاده والعالم في وحلها ووحل أفغانستان قبلها ليبدأ سفك الدم الذي لم يتوقف. ان الغرب المتحضر المؤيد في جانبه الرسمي لاحتلال العراق دون أي تساؤل حول ما يحصل لهذا البلد المزنّر والهباء والمكتنز بالآثار التي تشهد على المنجز الحضاري الانساني الذي يعود لآلاف السنوات قبل ولادة السيد المسيح عليه السلام. لم يحسبوا لها حسابا، ولم يفكروا في كيفية حمايتها من عمليات القصف المجنونة التي كانت بدايتها عام 1991 وكأن التاريخ الانساني ليس واحدا، بل ان التاريخ بدأ باكتشاف أمريكا فقط وقيامها على سلطة الذبح والقتل واللصوصية (نحر ملايين الهنود الحمر أصحاب الأرض وما حوت). وقد بلغت الاستهانة ذروتها المتعمدة عندما توجهت أفواج من الرعاع المدربين لتحطيم وسرقة ما حوى المتحف العراقي العريق فاختفت آلاف القطع النادرة لم يعد هناك من أمل في العثور عليها! كان هذا أمرا مقصودا ومطلوبا لتحويل البلد إلى أرض يباب ومحو كل الشواهد التي تغذي شموخ البشر في عراقة دورهم الحضاري وأهمية مساهمتهم في اثراء التاريخ الانساني. وكأن هذا وحده لم يكف الغزاة فجعلوا عددا من أهم المواقع الأثرية ثكنات لجنودهم، وقد أصدر اليونسكو بيانا ندّد فيه بالتخريب الكبير الذي قامت به الدبابات الأمريكية والمجنزرات وحاملات الجند لآثار مدينة بابل التي أنفقت المليارات في إعادة ترميمها لتعود مثلما كانت عليه في عهودها الزاهرة، عهد نبوخذ نصر وجنائن بابل المعلقة التي عدت احدى عجائب الدنيا السبع. وغير بابل تحولت إلى قاعدة عسكرية أيضا آثار السومريين في مدينة أور قرب الناصرية، مدينة جلجامش الخالد بملحمته العظيمة التي عدّها المؤرخون «أوذية العراق القديم» ومسقط رأس أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، وتتواتر الأنباء عن السرقة والتخريب الذي حصل في آثار هذه المدينة العريقة. وهناك كذلك التخريب الذي حصل في آثار سلمان باك قرب بغداد الذي يمثل واحدة من الآثار الهامة التي كانت تشكل منتجعا لسكانها وأصبح هذا القوس الجميل المبني على ارتفاع ستة وثلاثين مترا كما قرأت يوما مهددا بالسقوط. هذا عدا آثار أخرى مثل آثار ذي الكفل. لكن ما يثير الاستغراب، وبعد كل ما فعله العساكر بالعراق أرضا وبشرا واثارا وحاضرا انتابتهم فجأة الرغبة في العناية بالآثار، والقيام بعمليات صيانة وترميم لها والبحث عن القطع الأثرية النادرة التي هربت أمام أبصارهم. وفي مؤتمر علماء الآثار الذي عقد في العاصمة الارلندية دبلن هذا العام ذهب ضباط أمريكيون لهذا المؤتمر ليمثلوا العراق!! هكذا: وليس معهم عالم آثار عراقي واحد حتى ولو كان ذلك للفرجة فقط، وقد احتجت احدى عالمات الآثار الارلنديات على حضور ضباط بزيهم العسكري وهم يمثلون القوة المحتلة لبلدة كالعراق.. وفوق هذا أخذوا صفة تمثيله والحديث عن آثاره وتوزيع صور لبعض آثاره المنهوبة بغية البحث عنها لاسترجاعها. أرأيتم صفاقة أكثر من هذه؟ ولكن المؤلم ما سمعته من مدير الآثار العام الحالي في بغداد في حديث بثّته احدى الاذاعات عن عدم ممانعة إدارته من تمثيل الضباط الأمريكان لها. وكانت لهجته خانعة ذليلة وشكر فيها هؤلاء الضباط لأنهم ذهبوا للمؤتمر إذ أن اجراءات السفر لم تسمح له ولا لأحد من ادارته حضور المؤتمر! هكذا الأمر إذن؟ ولكن المثل العربي يقول ان «حراميها» لن يكون في يوم ما «حاميها». وبعد «خراب البصرة» تتساوى كل الجراح! أسفا! أسفا!