لعله واحد من أهم «أغلفة» الكتب الصادرة في تونس. اللوحة والتصميم لعادل التليلي والنص لهادي دانيال. فلسطين المبدعة أو قراءة في الابداع الفلسطيني من خلال بعض الأعمال والشهادات والنصوص لرموز مثل حنا ابو حنا وغسان كنفاني ومعين بسيسو وفدوى طوقان ومحمود درويش. الكتاب تعرض أيضا لبعض أعمال أحمد دجبور والمتوكل طه وخالد درويش في مجال الشعر ويحيى يخلف في مجال الرواية وأكرم هنية في القصة القصيرة وعبد الحي مسلم وجماعة فناني الارض على المستوى التشكيلي ونصري حجاج سينمائيا. على الغلاف الجميل الانيق يظهر الرمز غسان كنفاني الذي جعل اهداءه لوداد قمري ابنة القدس... بطلة رواية «برقوق نيسان» التي لم تكتمل! هذا الكتاب الذي صدر عن دار نقوش عربية في 144 صفحة كان يمكن ان يكون اضخم لولا اعتماد هادي دانيال اسلوب التكثيف وتجنب الثرثرة وافتعال التأريخ... الكتاب ضمّ بين دفّتيه مقالات حديثة وأخرىتستدعي حنينا كتبت ما بين 1979 و2009 ونشرت في أهم الصحف العربية والتونسية اليوم وبمناسبة القدس عاصمة عربية تنشط الذاكرة وطقوس الوفاء والولاء لأفذاذ ورموز أعطوا دون حساب. ويعترف هادي دانيال أنه مقصّر مهما اجتهد في الالمام بكل الاسماء مؤكدا انه لا يقدم عملا بيبلوغرافيا ولا دراسة شاملة بل يعمل على الاقتراب من نتاجات اسماء قريبة اليه. ويعترف ان كثيرا من الأسماء الغائبة حاضرة رغم الغياب. قداسة يعود هادي دانيال بالذاكرة الى أوائل السبعينات حيث كان يتعلم تفكيك الاسلحة الفردية وأيضا تفكيك النصوص التي بين يديه أو وضع دفتر ليترشف حبره ويتحدث عن المعارك الفكرية التي خاضها وتعلقه بالرمز غسان كنفاني الذي اكتسب عنده قداسة لأنه «أوّل رمز ثقافي وسياسي اتخذ في وعيي المبكر تشكل الايقونة وزادته الشهادة علوّا واشعاعا و«أسطرة». تحدث عن الرموز حنا ابو حنا في كتابه عن ثلاثة شعراء (ابراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)) الذي لقب بذلك لتشبيبه بفتاة تدعى سلمى. هادي نقل من فصول الكتاب موقفا لعبد الرحيم محمود الذي قال سنة 1935 حين زار الأمير سعود بن عبد العزيز فلسطين. فلسطين خلال مهرجان اقيم لاستقباله: «المسجد الأقصى أجئت تزوره أم جئت من قبل الضياع تودعه» وهو صاحب اشهر بيتين: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوى الردى فأما حياة تسرّ الصديق واما ممات يغيظ العدى» أما أبو سلمىفهو القائل: «كلما حاربت من أجلك أحببتك أكثركلما دافعت عن ارضك عود العمر يحضر وجناحي يا فلسطين على القمة ينشر» ويرى هادي ان التناص مع اعمال درويش وهذا النص واضح خاصة في قصيدة «فلسطينية العينين». ألم يصف محمود درويش ابو سلمى ب «الزيتونة التي نبتت على جذعها اغانينا» وأيضا قوله «منه تعلمنا ترابية القصيدة». هذه الحميمية التي تحدث بها دانيال مبثوثة في كل النصوص تقريبا هو قارئ وكاتب ومحلل وشاعر عاشق ولا يمكن فصل ما يكتبه عن هؤلاء الرموز فهل كان يرى فيهم شيئا من نفسه خاصة حين الحديث عن غسان كنفاني الذي كان: «قائدا وروائيا قاصا ورائدا ومسرحيا ناقدا ورساما ورئيسا لتحرير مجلة تقدمية لأنه كان عبقريا ولأنه كان غسان كنفاني»! يا رفيقي ويا معلمي! نص ينضح وفاء ونبلا! وحين يتحدث عن معين بسيسو والاقصى مهدد ينقل بعض السطور وكأنها كتبت اليوم: «اشربوا حبركم وابتلعوا الورق علقوا على حبل الغسيل برقياتكم علقوا الخطب وقولوا أي شيء لنا اكتبوا اي شيء لنا ادهنوا اصواتكم بدخان الغضب ضعوا على وجوهكم أقنعة اللهب ولا تقولوا شيئا واحدا لا تقولوا إننا عرب!» ويتعرض هادي دانيال الى «رسالة الى جندي اسرائيلي» التي كتبها مع محمود درويش والتي أحرقت صهباء زوجته النسخة الاصلية بخط محمود درويش ومعين بسيسو «حتى لا يقال هذا محمود وهذا معين» على حد تعبيرها أي أنهما واحد. 4 مقالات أما محمود درويش فقد أفرد له هادي دانيال 4 مقالات منها مقال عن حضوره التونسي لكنه أحالنا على البدايات حين كان لمحمود درويش حضور متميز في مكتبته وكان «عصافير بلا أجنحة» أول 4 كتب امتلكها المؤلف بعد «قالت لي السمراء» لنزار قباني و«الفرح ليس مهنتي» لمحمد الماغوظ وتلويحة الأبدي المتعبة لممدوح علوان. وبشيء من الطرافة يذكر هادي دانيال كيف كان يتتبع «سقطات» محمود درويش الشعرية أو ما كان يحسبه «هنات». لأكتشف لاحقا انها كانت بعض ميزاته مضيفا بأن الغيرة من محمود درويش الذي التف حوله المعجبون تحوّلت الى حب ولم يعد التفاف المعجبين حوله مصدر غيرة بل صار اطمئنانا على حاضر الشعر ومستقبله. الكتاب اهتم بعدة تجارب أخرى لأحمد دحبور والمتوكل طه وخالد درويش ويحيى يخلف وأكرم هنية اضافة الى فصول في الفن التشكيلي والسينما. ويمكن القول بكثير من الثقة ان هادي دانيال كان عاشقا بل كان ماثلا وحاضرا هل كان يؤرخ ان ينسج سطورا من الوفاء والألم والتذكر والحسرة؟ هل كان هادي دانيال وهو يكرّم الرموز يؤرخ لفترة من تاريخه النضالي والصحفي والشعري؟ هل كان يراجع ذاكرته ومواقفه؟ هل كان يقارن بين فترة الاندفاع والنضج الكتاب يقرأ على عدة أوجه لكن أجمل ما فيه تلك الحميمية والصفاء وذلك الاسلوب المتدفق الذي يشدنا سلسا بعيدا عن التقرير ومنطق الحجر!