... دموع تمحو الألم، هي بشارة بولادة جديدة وحياة جديدة نفخت في جسد أحد الشبان... قصة ألم ينسحب من قلب الولد يخلي مكانه للأمل بفضل الوالد البطل. حول مولود جديد تجمع بعض الأهل والأصدقاء يهنئون والدا ببطولته ويسوقون للولد عبارات التهاني بحياة جديدة. انه أمل عاد ويأس مسح دموعا بينما كانت عين طفلة تشع ببارقة أمل تنتظر ولادتها هي الاخرى... هي تلك الحياة... ألم يعقبه أمل... لتتحول الى عبرة ونخوة من ذلك الانسان. ليس هذا الحفل بحفل زفاف ولا ختان ولا ولادة بمعنى الوضع ولا عودة بعيد.... بل هي قصة عطف وبرّ وحياة جديدة...رواية مشحونة بأجمل المشاعر وأشدها تأثيرا... هي قصة حب مثمرة، بطلها والد والمولود فيها ابنه الشاب في انتظار قصة حب أخرى في الطريق من امضاء والدة حنون وابنتها الشابة. مشاعر مزدوجة ازدحمت في نفوس عائلة السيد محمد بن حسن القيزاني أصيل منطقة الحمالة بجبل السرج من معتمدية الوسلاتية في يوم عظيم ومشهود تجمع له عدد من أفراد العائلة في ما يشبه الحفل فيه التهاني والدعوات... والعبرات. فقد استعاد الشاب سمير القيزاني (21 عاما) الذي يشكو من قصور كلوي حياته الطبيعية بعد معاناة مريرة مع مرض القصور الكلوي بفضل هبة والده (محمد) الذي أهداه احدى كليتيه لتنتقل به زاوية الحياة من اليأس والألم الى الأمل بعد معاناة أرهقته نفسيا وبدنيا وماديا هو وشقيقتاه (سعاد وأمينة). «الشروق» كانت نشرت في عدد سابق قصة معاناة أشقاء ثلاث من مرض القصور الكلوي وكنا أشرنا الى اعتزام والدهم التبرع باحدى كليتيه لاحد أبنائه، مؤخرا أجريت عملية زرع الكلية بنجاح في جسم الشاب المريض. وسعيا منها لنقل ما يختلج في نفسي الوالد المتبرع والشاب الموهوب، «الشروق» زارت الاسرة ونقلت ما احتشد من فرح ودموع بينه وبين والده. الواهب الشجاع كان الوالد محمد القيزاني يتجرع مرارة العجز وهو يرمق أبناءه بعيني الرحمة والشفقة. كان يعيش نفس مشاعر أبنائه الثلاثة في مرضهم وربما أكثر طالما أنه يتكفل بمصاريف علاجهم وتنقلهم بين الوسلاتية والقيروان علاوة على مسافات البعد التي فرقت بينه وبين فلذات أكباده. ويبدو أن الوالد محمد تحمل ما يكفي من الألم الصامت ازاء ما يشهده من معاناة يومية لأبنائه حتى ضاقت به السبل وقرر أن يخرج من صمته فكانت خطوة... نحو دنيا جديدة. وأمام تأكيد الاطار الطبي بنجاح عملية زرع الكلية في جسم ابنه المريض فقد أقدم على العطاء. يوم 23 سبتمبر كان الموعد... موعد اجراء عملية زرع الكلية للشاب الذي كان محكوما بتصفية الدم ومعاناتها مدى الحياة. المكان مستشفى سهلول بسوسة ومهندسو العملية عدد من الاطارات الطبية وشبه الطبية بالبلاد. والمعنيون بالأمر: والد رحيم في جرابه الشجاعة والرحمة، وفي الغرفة الثانية من غرف العمليات، شاب مريض (الابن). يوم العملية كان بمثابة عرس، كان الوالد محمد (الواهب) محل ترحاب من الاطار الطبي بالمستشفى ونال أكثر من لقب ووسام تكريما لاقدامه على التبرع. مبادرة لا غرابة ان يحمد عليها الوالد ويشكر وينال الأوسمة. وقال الوالد ان الاطار الطبي شكره واعتبره كمن أدى فريضة الحج (قياسا بالاجر والحسنات) وهو في منزله ويقول «اعتبروني بطلا ووصفوني بأن قلبي من حجر»، مضيفا «كانوا يشيرون الى كل من حضر بالمستشفى ويعرفونه بما سأفعل من تبرع» وأكد أن الخوف والرهبة لم يقربا منه ولم يكن مترددا لأن ما فعله هو واجب واصفا اياه بأنه «تطوع لانقاذ حياة ابني... أردت ان أقدم شيئا لكبدتي» واصفا شعوره في تلك اللحظات بأنه «شعور جميل». بعد سويعات معدودات تمت العملية بنجاح... مثل هذه العمليات أصبحت روتينية وسهلة وناجعة بفضل توفر كفاءات طبية ببلادنا (في انتظار توفرها في القيروان). عندما أفاق الأب من التخدير لم يسأل عن حاله بل سأل عن ابنه (سمير) ومكث في غرفة المستشفى مدة أسبوع قبل ان يغادرها بطلا معطاء لا يحمل من المخاوف والتهويلات الا جرحا بسيطا (على جنبه الايسر) سيصنع له من قوته بلسما. دنيا جديدة الوالد محمد كان شديد الوعي بما يفعل وكان على يقين بأن عطاءه لابنه يساوي كنوزا وان ما أقدم عليه من هبة وتنازل عن «كليته لفلذة كبده». وعن دوافعه في هذا التبرع بين الوالد الرؤوم قائلا «تمنيت أن أخرجه من عزلته في المنزل وأن ينخرط في المجتمع وينسجم مع العائلة...» في اشارة الى حالة الانقسام في العائلة بين شق معافى يقطن منطقة الحمالة وشق مريض مقيم بمدينة القيروان لدى الجدة. ويضيف الوالد «لكل بداية نهاية وآمل ان يوفق بعد تعافيه في الحصول على عمل «واصفا حال ابنه بأنه ولد من جديد». ولعلّ أصعب أمنية أثارت الحاضرين هي أمنية الوالد لو ان له أربع كلى ليتبرع لأبنائه الثلاثة كل بواحدة.. ألقى أمنيته مع زفراته وكان يشهد اللّه على قوله.. وهو صادق. كان الابن سمير يستمع مع من يستمع متأثرا بمشاعر والده مقدرا له عظيم صنيعه له وكيف انه برّه مرتين. في الحقيقة كان الحديث في شكل حوار أدرناه بين الوالد محمد وابنه المولود من جديد سمير. سمير الذي مسه الضر طيلة سنوات عرف فيها معنى الألم معنى الحرمان من أبسط ضرورات الحياة وأولها الماء، كان وفيا بارا بأبيه معترفا بجميله وفضله عليه كيف لا وهو يعيش بدماء والده و«لحمه» وشجاعته. عطاء وبرّ «شعرت أنني كنت أحلم أو أنني كنت نائما. وبعد العملية أحسست ان روحا جديدة نفخت في جسمي» كان ذلك أول ما بدأ سمير يشعر به تدريجيا بعد ان كان محروما منها ويضيف... «لقد أصبحت آكل وأشرب بصفة عادية بعد عملية زرع الكلية». معبرا عن فرحته بنجاح العملية أما عن شكره لوالده فأكد انه «جميل لا يقدر على رده». وذكر انه عندما كان في غرفة المستشفى (لمدة 15 يوما ممنوع من الزيارة) كان والده ينظر إليه وأكد أنه كان يتمنى حينها أن يتحدث إلى والده وان يضمه ويشكره. «كلمة شكر لا تكفي» هكذا بدا لسمير الذي يرى أن والده أنقذ حياته ودعا اللّه أن يوفقه في البر به ومساعدته عند الكبر. الشعور بنعمة الحياة جعل سمير يتمنى أن يشمل مرضى القصور الكلوي وأولهم شقيقتيه سعاد (23 سنة) وأمينة (12 سنة). ويقول في ذلك «أتمنى أن يشعر اخوتي بما شعرت به من تدفق الحياة كما تمنى لكل مرضى الفشل الكلوي حياة جديدة ويتخلصون من تصفية الدم». مع كل كلمة ينطق بها كانت شقيقته سعاد تتلقفها بأذنيها كما تتلقى حركاته وسكناته بنظرات التمني أن تشعر بما شعر به شقيقها. نظرات شعرنا بها كما شعرنا بذلك الشهيق والزفير الثقيل الذي حمل معه معاني وأمنيات كثيرة. من حضر اجتماع العائلة في ما يشبه الاحتفال كان من العسير عليه أن يكون ذلك الرجل الصامد. وفي الحقيقة لم يكن أحد منا كذلك. ذلك الحجم من العطف والحب والبر والأمل حلق فوق رؤوس الحاضرين. وحسب بعضنا انه أقصى ما لدى العائلة الفقيرة من كرم وعطف قبل أن تفيض العيون بدموع وتزدحم مشاعر الاكبار ممزوجة بشحنات من الحب الصادق والوفاء. كان من المحرج أن نسأل هذا الوالد الذي كان قد أقدم لتوه على انقاذ حياة ابنه، عن مصير ابنتيه وظننا أننا قد وقعنا في الحرج قبل أن نفاجأ بأن الوالدة نجمة بن بلقاسم القيزاني ستسير على خطى زوجها في العطاء والبطولة وستهب الحياة لابنتها سعاد التي عانت من الفشل الكلوي أشد ما عانت في صمت.. بعد ما رأته من حياة تدب في أوصال ابنها. للّه در هذه الحياة كم فيها من خير وكرم متخفيين. الوالدة نجمة كانت تلتقط حديثنا عبر النافذة لتسمع حوار الود والعطف بين الوالد والولد، كأنها تمتحن مشاعرها وحنانها تعدها لذلك اليوم المشهود. مجانية وناجحة خيط رفيع يفصل بين الألم والأمل. بل هي كلمة وعطاء يقدم عليها الإنسان خاصة عندما يتعلّق الأمر بأحد الأقرباء. وذكر سمير ان العملية كانت سهلة ولم تستغرق الكثير من الوقت كما أشار إلى جهود الاطار الطبي وشبه الطبي وما قدموه من عناية له ولوالده من رعاية صحية ومتابعة مستمرة طيلة مدة إقامتهما في المستشفى. وشدّد سمير على شكر الدكتورين عاشور ومصباح وغيرهما والإطار شبه الطبي علما وان عملية الزرع كانت مجانية منذ بدايتها حتى النهاية. وأكد الوالد محمد انه وبعد نحو شهر من اجراء العملية فإنه يعيش بصفة عادية في مأكله ومنامه. وقال: «بصدق لا أشعر بأي نقص في جسمي وأؤكد لكل (تونسي) ان امكانية وهب الحياة متاحة وخيرها كثير وأجرها كبير». الطفلة أمينة (تلميذة بالسنة الخامسة) مريضة الكلى تنتظر هي الأخرى دورها وحظها من الحياة. عائلتها استنفدت عطاءها ولم يبق لها سوى الدعاء لها بالشفاء. أمينة ليست الطفلة الوحيدة التي يمكن انقاذها وليست الوحيدة التي حرمت لذة الحياة والأكيد أنها لن تترك وحيدة وستجد حظها من الشفاء.. لكن بشرط.. أما الوالد فقد كان سعيدا بإدخاله الفرحة إلى عائلته وارتسام البسمة على شفتيه بعد طول سفر مع المتاعب. وقد أكد لنا حاجته وأبناءه إلى تواصل العلاج وما يتطلبه من تكاليف باهظة في التنقل وخاصة حصص المتابعة التي يحتاج إليها ابنه بعد نجاح عملية الزرع كما جدد الوالد نداءه إلى السلط الجهوية بتوفير مسكن له ولأبنائه يكون قريبا من مركز التصفية خاصة وانه تلقى وعودا من السلط الجهوية التي لم تدخر جهدا في مساعدته آنفا.