يوم الإثنين 19 أكتوبر 2009 أعلنت وزارة العدل الأمريكيّة عن اعتقال أحد العلماء الأمريكيّين بتهمة التجسّس وتهديد الأمن القوميّ الأمريكيّ. يقول الخبر إنّ هذا العالم الذي عمل في البنتاغون وفي وكالة ناسا، واسمه ستيوارت دافيد نوزيتي، تلقّى اتّصالاً من شرطيّ في مكتب التحقيقات الفدراليّ. وخلال هذا الاتّصال تظاهر الشرطيّ بأنّه عميل استخبارات إسرائيليّ، وطلب منه تزويده بأسرار تخصّ الأمن القوميّ الأمريكيّ، مقابل مبلغ من المال طبعًا. فوافق الرجلُ وهكذا وقع في الكمين. السؤال الآن: ما ذنبهُ المسكين؟ إلى حدّ الآن نحن أمام تصرّف طبيعيّ لمواطن ابن عصره ومجتمعه، يشاهد تلفزيون الحقيقة، ويُصدّقُ كِبارَ القوم الذين يقولون له إنّ القِيَمَ خرافات بالية، وإنّ الربح الماديّ هو الأساس، وإنّ المصلحة الشخصيّة هي الهدف، وإنّ القوّة هي الوسيلة، وإنّ الولاء لمن يدفع أكثر، وإنّ كلّ تضحية أو مُقاومة انطلاقًا من اعتبارات عقائديّة أو وطنيّة نوعٌ من التخلّف والإرهاب. مثلُ هذا التصرّف هو إذَنْ النتيجة الطبيعيّة لمثل هذه الذهنيّة، ذهنيّة «حبّ الحياة» على الطريقة البراقشيّة. فالرجل ليس سوى تلميذ نجيب في مدرسة العصر. أليست هذه هي قيَمُ العصر الجديد التي تُروّجُ لها ماكنة الدعاية العالميّة من الشمال إلى الجنوب وتحديدًا من المحيط إلى الخليج ؟ السؤال الثاني: لماذا يُعاقَبُ المسكين؟ العميلُ الفيدراليّ لم يتظاهر بأنّه عربيّ أو إيرانيّ بل انتحل صفة الإسرائيليّ كي يكتسب «المصداقيّة». وذلك لأنّ تجسّس الإسرائيليبّن على «أصدقائهم» سنّةٌ حميدة منذ بن عامي كديش وجوناثان بولارد وغيرهما، وهي سُنّةٌ لم تفسد للصداقة قضيّة، إلى أن يأتي ما يخالف ذلك، وهو آت بلا شكّ. وصاحبُنا حين توهّمَ أنّه باعَ أسرارًا تخصّ وسائل الدفاع الأمريكيّة، فهو لم يتوهّم بيعها إلى غريب، بل توهّم أنّه باعها إلى الإسرائيليّ الذي قيل له إنّه صديق وإنّه جزء من الأمن القوميّ الأمريكيّ. والمفروض أن يتمّ تكريم الرجل لتمثُّله بقول ابن عبد ربّه: متى يَمْشي الصديقُ إليَّ شِبْرًا، مشيتُ إليه من كرَمٍ ذِراعَا. السؤال الثالث: أين الجريمة؟ صاحبُنا الساذج تمّ إيقافه بسبب جرم لم يرتكبه، بينما قام العميل الفدراليّ بانتحال صفة دون أن يُعاقب على ذلك. لكأنّنا على أبواب مرحلة تاريخيّة جديدة. مرحلة محاكمة النوايا والتغاضي عن الأفعال: تُكدّس إسرائيل السلاح النوويّ فتُعاقَبُ إيران على نواياها النوويّة. يناضل الائتلافُ ضدّ القنابل العنقوديّة فيُمنَح أوباما جائزة نوبل لنوايا السلام. يتجسّس الغربُ كلّه جهارًا نهارًا فيُعاقَبُ عالِم مسكين على نواياه التجسّسيّة. وكأنّنا أصبحنا نعيش داخل «مينوريتي ريبورت»، ذلك الفيلم الذي أخرجه ستيفن سبيلبرغ وقام ببطولته توم كروز، والذي نرى فيه المجتمع يحاكم الناس لا على نواياهم، بل على النوايَا التي لم يشعروا بها بعد والتي «قد» تصبح نواياهم. «في الماضي، لم تتمكّن أيّ حكومة من فرض رقابة مستمرّة على مواطنيها. الآن تراقب شرطة الفكر الجميع وعلى مدار الساعة» هكذا كتب جورج أورويل في روايته 1984، وكنّا نستبعد ما كتب. لكن ها هي الكاميرات تُنصب في أنقلترة في كلّ مكان حتى في المراحيض العموميّة. وها هو البنتاغون بعد قانونه الشهير Patriot Act يطوّر نظامًا شديد التعقيد تحت اسم Awareness Total Information تحت إدارة الجنرال جون بيوندكستر، وهدفه جمع 40 صفحة من المعلومات حول كل شخص من بين المليارات السبعة المقيمين في الأرض. لقد تأسست الحداثة على مفهوم «حرمة الفرد» وحياته الخاصة. ثمّ طُلب من الفرد أن يرضى «بحياة خاصّة أقلّ من أجل أمن أكثر»، ثمّ سرعان ما اكتشف في النهاية أنّه خسرهما معًا: الأمن والحياة الخاصّة. في هذه المنظومة المغشوشة لم يعد مسموحًا لأحد بأن يخفي سرًّا من أيّ نوع. إلاّ لمن استطاع إليه سبيلاً. أصبح التجسّس هو القاعدة، بين الدول، وبين الدول ومواطنيها، وبين المواطنين أنفسهم، وكأنّ مطاردة الأسرار هي الترجمة الحديثة لمطاردة الساحرات. ولعلّ من أوضح علامات الغشّ أن يُحاكَمَ هذا «الجاسوس الهاوي» بينما الجواسيس المحترفون يجلسون على سدّة المحكمة.