تونس تشارك في معرض ليبيا للإنشاء    غرفة القصابين: معدّل علّوش العيد مليون ونص    نيويورك: الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا وتعتقل عشرات المؤيدين لغزة    تونس: الإحتفاظ بعنصر تكفيري مفتّش عنه    علم تونس لن يرفع في الأولمبياد    جبل الجلود تلميذ يعتدي على أستاذته بواسطة كرسي.    مهرجان سيكا جاز: تغيير في برنامج يوم الافتتاح    الفيلم السّوداني المتوّج عالميا 'وداعًا جوليا' في القاعات التّونسية    سامي الطاهري يُجدد المطالبة بضرورة تجريم التطبيع    دعما لمجهودات تلاميذ البكالوريا.. وزارة التربية تدعو إلى تشكيل لجان بيداغوجية جهوية    الطبوبي في غرة ماي 2024 : عيد العمّال هذه السنة جاء مضرّجا بدماء آلاف الفلسطينين    عاجل: وفاة معتمد القصرين    انطلاق فعاليات الاحتفال بعيد الشغل وتدشين دار الاتحاد في حلتها الجديدة    بنزرت: وفاة امرأة في حادث اصطدام بين 3 سيارات    اليوم: طقس بحرارة ربيعية    تونس: 8 قتلى و472 مصاب في حوادث مختلفة    البطولة العربية السادسة لكرة اليد للاواسط : المغرب يتوج باللقب    الهيئة العامة للشغل: جرد شركات المناولة متواصل    اليوم: تونس تحيي عيد الشغل    جولة استكشافية لتلاميذ الاقسام النهائية للمدارس الابتدائية لجبال العترة بتلابت    نتائج صادمة.. امنعوا أطفالكم عن الهواتف قبل 13 عاماً    اليوم.. تونس تحتفل بعيد الشغل    اتفاق لتصدير 150 ألف طن من الاسمدة الى بنغلاديش سنة 2024    الليلة في أبطال أوروبا... هل يُسقط مبابي «الجدار الأصفر»؟    الكرة الطائرة : احتفالية بين المولودية وال»سي. آس. آس»    «سيكام» تستثمر 17,150 مليون دينار لحماية البيئة    أخبار المال والأعمال    وزارة الفلاحة تضبط قيمة الكيلوغرام من التن الأحمر    لبنان: 8 ضحايا في انفجار مطعم بالعاصمة بيروت وقرار عاجل من السلطات    موظفون طردتهم "غوغل": الفصل كان بسبب الاحتجاج على عقد مع حكومة الكيان الصهيوني غير قانوني    غدا الأربعاء انطلاقة مهرجان سيكا الجاز    قرعة كأس تونس للموسم الرياضي 2023-2024    اسقاط قائمتي التلمساني وتقية    تأخير النظر في قضية ما يعرف بملف رجل الأعمال فتحي دمّق ورفض الإفراج عنه    تعزيز أسطول النقل السياحي وإجراءات جديدة أبرز محاور جلسة عمل وزارية    غدا.. الدخول مجاني الى المتاحف والمواقع الاثرية    هذه تأثيرات السجائر الإلكترونية على صحة المراهقين    قفصة: تواصل فعاليات الاحتفال بشهر التراث بالسند    وزيرة النقل في زيارة لميناء حلق الوادي وتسدي هذه التعليمات..    تحذير من برمجية ''خبيثة'' في الحسابات البنكية ...مالقصة ؟    ناجي جلّول: "أنوي الترشّح للانتخابات الرئاسية.. وهذه أولى قراراتي في حال الفوز"    الاستثمارات المصرح بها : زيادة ب 14,9 بالمائة    عاجل/ "أسترازينيكا" تعترف..وفيات وأمراض خطيرة بعد لقاح كورونا..وتعويضات قد تصل للملايين..!    مختص في الأمراض الجلدية: تونس تقدّمت جدّا في علاج مرض ''أطفال القمر''    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    إحداث مخبر المترولوجيا لوزارة الدفاع الوطني    أمير لوصيف يُدير كلاسيكو الترجي والنادي الصفاقسي    إصطدام 3 سيارات على مستوى قنطرة المعاريف من معتمدية جندوبة    خبراء من منظمة الصحة العالمية يزورونا تونس...التفاصيل    ربع نهائي بطولة مدريد : من هي منافسة وزيرة السعادة ...متى و أين؟    التوقعات الجوية اليوم الثلاثاء..أمطار منتظرة..    فرنسا تعزز الإجراءات الأمنية أمام أماكن العبادة المسيحية    الخليدية .. أيام ثقافية بالمدارس الريفية    زيادة في أسعار هذه الادوية تصل إلى 2000 ملّيم..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة: «طائر الخزف 2»
نشر في الشروق يوم 22 - 10 - 2009


جاء يسألني عن الطائر .
لم أقل له إنّ «فضّة» ماتت وإنّني قد هجرت البستان، لكنّ عينيّ تسلّقتا وجهه واستقرّتا على شواطئ عينيه ، تبحثان عن المنارة...كلّ شيء كان منطفئا، والموج كان ثقيلا راكدا وما من نوارس.
قال: أو لم تعودي إلى هناك؟
قلت: وما حاجتي ؟
ردّ مقطّبا : كأنّك نسيت.. .
سقطت كسوف من قلبي وتناثرت في كلّ مكان ورأيته كالقافز يبتعد متحاشيا أن يصيب دمي حذاؤه .حذاؤه الذي كان تائه الخطوات كعادته ، أسود اللّون كما رأيته آخرمرّة و مزيّنا بما يشبه المنجل الصّغير في أحد جوانبه. يصعب نسيان التفاصيل الأخيرة إذا كنّا نقتحم العالم بعين شغوف. كدت أسرّله، احذر أن تقع على وجهك مرّة أخرى.. لكنّي أحجمت.
لعلّه في غمرة ذهوله لم يتفطّن إلى حذائه. ولم يلمح بقع الطّين التي كانت تلطّخه، رجل في مثل أناقته وبهائه .أعرف أنّه لا ينظر الى أسفل إلاّ قليلا، كأن بغيته موجودة دائما بين النجوم.قلت له وأنا مشغولة بأصابعه التي نسيت طعمها: ما من ذاكرة بقيت لي، حتّى أنسى أو أتذكّر a.قطّب مرّةأخرى ورأيت سماءه تربدّ بالغمام.
أو تربدّ سماءك الآن لأنّني جرحت غرورك، فهل فكّرت في سمائي المربدّة أيّام تركتني في العراء ؟
أأقول له ، إنّ النّاعورة فقدت أحد أذرعتها؟ والمهرة يوم زيارتي الأخيرة لم أسمع صهيلها، والفرس أصابها عرج ولا أعلم في ذاك الخراب العميم من كان يرعاها بل.لعلّها استوحشت وأصابها قلق المكان؟.. في ما مضى كانت تهرع الي ّوتحادثني وتأكل من يدي كوز الذّرة، وتلعق حبّ السّمسم، أمّا يومها، فقد رمقتني فزعة وفرّت الى غابة القصب كأنّما تبحث عن شيء مفقود، أو لكآنّها حدست ارتجاجا بعيدا في باطن الأرض، أتراه قلبي وقتها يشقّق، وأنا لا أعي، كان قدري يقودني إلى حيني وأنا لا ألوي على شيء.
ألا تدخل ؟
لم يقلها لساني، لكنّ قلبي كان يلعب لعبة المجاز ويهذي، ووجهي كما عوّدته كان بألف قناع. زمن حرباويّ السّحنة، فكيف لاأصفرّ ولا أمتقع ولا أدّعي الجفاء و أنا حفنة من عذاب؟
لم يكن في حاجة إلى دفع الباب.. كانت الرّيح قد سبقته إلى ذلك، مشيت وهو يقتفي أثري وجلا وذيل معطفه يتلعثم، أيكون مثلي تزوّجه الهرم أم يحاول كعادته أن يلقي اللّوم على الدنيا ؟
وصلنا إلى الحجرة القبليّة، تلك التي كان أبي يتّخذها للضّيافة. وأنا إذ أجد نفسي هنا مرّة بعد مرّة، أنام فيها وأقرأ واقتنص صوته وأنسج من نور حروفه بٌردا به أتدثّر إن أزّت الرّيح، وتساقطت ندف الثّلج في ليالي ديسمبر العمياء .وإذا ران الصّمت وأثقلني الخراب، جعلت نغماته مواويل تصلني بالنبع الأخضر أيام كانت أمي ريّانة كالرمّانة، وأبي في مثل السّيف الصّقيل يتّزر برنسه الجريدي الأحمر، ويسري ليصلّي الفجر مع تقاة البلدة، ونحن نشرق مع الشمس، لنجلب الماء ونملأ الخوابي والجفان، ونغرق بعدها في جنّة الفطير المخبوز بالزّبدة والخارج لتوّه من الفرن الطيني، ونشرب القهوة الشاذليّة التي كانت تبدع أمّي في إعدادها .كانت تحمّصها مرّتين وتضيف لها حبوب الكزبرة اليابسة وقشور البرتقال فتضوع بعبق الجنّة وتسري كالسّحر في الزّقاق، فيرتبك العابرون ويتساءلون عمّا اعتراهم ولا يفقهون. وماهي الا هنيهة حتّى يدفع الباب وتدخل الخالة منّانه وهي تصيح مداعبة، إذا كنتم لا ترغبون في الزّيارات المفاجئة فكفّوا عن طبخ هذه القهوة الآسرة. ولا يملك عمّي النّوري الاسكافي نفسه، فيبعث صبيّه إلى أمّي لتعدّ له إبريقا منها متعلّلا بأنّ موقد الغاز لديه قد فسد، وهو لا يرضى بشرب القهوة من مقهى القطاري لانّها بلا روح.
التفتّ أدعوه ليحلّ علي ضيفا في زمن البياض. وأسقيه من قهوة أنا صاحبتها، فيها من البوح على قدر الحزن ، وفيها من اللّوم على قدر الجفاء . كان النّور متجمّعا على جمّة شعره، في شيب لم أر انصع منه ، وعجبت لشعيرات سود كانت تقارع الزّمن هنا وهناك في استحياء لم أر أجمل منه .وتمنيّت في لحظة من النّزق العابر، لو أنّي فقط أغسل شعره وأفركه بأصابعي هكذا، وأصبّ عليه من دلو البئر وأنشّفه بعدها بطرف فستاني . كان متعبا كعقارب الساعة وشاربه في رثاء من فقد الكلام على حين غفلة، وعيناه لا لوز فيهما ولا توت، ولا حتّى من ذاك الغبار الفضيّ الذي يطير منهما ، كلّما قال أحبّك.
تمنّيت أن أغسل شعره، كما تمنّيت أن أشرب من راحتيه ماء المطر، كما تمنيت لو أنّي جلست معه في ظلمة الشّرفة المقابلة لجبل قاسيون.أو عند الهرم الأكبر ، أو على أدراج تاج محلّ، كان دائما يحدّثني عن تاج محلّ و عن قصّة الحبّ الكبيرة التي جمعتها بزوجها، ويعدني بأن يأخذني هناك ، ويبني لي قصرا في قلبه. وكنت أصغي كصومعة عند الفجر، وأرى فرحته وهي تكبر في عينيّ فيسقيها من ينبوع روحه العذب. كان يقفز ليأخذ من ورق التّوت المغروس على طول الطّريق، ويضربني به برفق على وجهي أو ذراعي. فأقول هل جننت؟ فيقول بك، ويحدّثني عن الأسطورة الهندية التي تروي أنّ العاشق إذاضرب حبيبته بورق التوت ، فإنّهما لن يفترقا أبداولكن كذبت الأسطورة وافترقنا. ونمت بيننا جبال من العذابات، والحنين المكتوم والأسئلة العبثيّة السّاذجة. حمحم ليكسّر الصّمت الذي كان يتسلقّنا من أقدامنا إلى هامنا . توقّفت أسأله : أمريض أنت؟قال كالخجل: لم أنم جيدا، منذ سنين لم أنم جيدا .
خلته يسرّ لي « كنت في شوق وخوف ، وكنت كما الصوّان عنيدة وعتابك مرّ ّوأنا بعثرني زمني وطرقي وعرة وأنت تظنين بي الظّنون الشديدة وتخالين نفسك وحدك مبتلاة».
خالني أسرّ له:
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئا تتيمه عين ولا جيد
توقّف مهموما ثمّ تمتم :
ألا نذهب إلى البستان؟
قلت سنفعل، ولكن النّصب يعجنك ، أراك تترنّح، سترتاح قليلا وترى سارة؟
سارة ؟
سارة الصغيرة التي نزلت علي ذات مساء من سطح العلّية كقطرة مطر. كان السّلم يحاذي الحائط وكنت نسيت أن أضعه في الدّهليز بعد أن نشرت البهار، وأصلحت حفر السطح لئلا يفاجئنا مطر الخريف. غفوت هناك وأنت في بالي لا تغادر والخطاطيف تتزاحم في المزاريب والحور عاشق يبوح بخطاياه الصّغيرة والمساء رحيم .لا أحد معي في الدّار كلّهم ذهبوا أو عادوا إلى دنياهم أو سافروا، أنا لم أعد أحصي أحدا ولا اهتمّ لأحد، أنهكتني الأعباء ، كلّهم هجروني على نحو من الأنحاء كأنيّ لم أعد أفيد أحدا، ولكلّ منهم نبت ريش الحلال واشتدّت الخوافي والقوادم، فماذا تراهم فاعلون بي؟ بتّ أثرثر كطاحونة قديمة، جعجعة وما من دقيق...
نمت قليلا، وكأنّي فجاة سمعت مطرا يراود الصّحو أو سقطت على صدغي من دموعه واحدة . وإذا سارة تنزل بفستانها الزّهري وتسألني عن خذروفها . ترب لها ألقاه فأضاع فرحتها. لكنّ سارة نسيت أمر الخذروف وأعجبها الحوش بمربّعاته الحمراء والخضراء وخزفه اللاّمع رغم غبش السنين. وطفقت تعدّ كلّ شيء، النّوافذ والخطاطيف والورق المتجمّع عند جذع التينة، ثم عدّت أساوري والتجاعيد التي بدأت تغزو رقبتي والشّعيرات البيض التي في صدغيّ، وسألتني لماذا لا أنزعها؟ وكدت أقول لها لو فعلت لانتقم مني الزمن وأضاف مزيدا من الشيب، وهبيني نزعت الشّيب الذي في رأسي، فكيف تراني أنزع شيب قلبي؟.أعجبها العدّ وهي تكتشفه لاول مرّة فعدّت كلّ شيء ، أصابعي وأصابعها، خرز القلادة، حفر الجدار، النمل، وأرادت عدّ أوراق التينة فغلبها النعاس. وأتت أمّها عندها لتأخذها فبكت .وعادت بعد ذلك مرارا وألفتني حتّى باتت لا تغادر ني، إلاّ إذا زعقت أمها وجرّتها من ذراعها جرّا. كأنّها صارت طفلتي وكانت ضحكتها تشبه ضحكتك، وكأنّما أتت تسدّ هوّة أنت حفرتها في جبل الرّوح .
كنت صامتا، أعرف هذا الصمت. ومبتسما، أحب هذا الابتسام. وحزينا حزنا أنا لم أعهده فيك مطلقا.
أعجبتك حكاية سارة، أعرف ذلك، لكنّك لم تقل شيئا. وظللت واقفا متلفّتا كأنّما أنت باحث عن شيء أنت نفسك لست مدركه...
هذا «المرقوم « تمدّد عليه وأرح عطب الرّوح، وهذه المتّكآت باردة الملمس ، فاحلم على إيقاع الخرفان في صوفها، وصليل المنحدرات التي لم تحضننا ونحن أطفال ولن تحضننا أبدا.أنت أضعتني وأضعت معك ماكان يمكن أن يكون وطنا لي ولك وخميلة لحساسين غربتنا وبستانا لفراشات الرّوح.يا كم أضعنا من أبحر وزوارق، وكم أتلفنا من قصور مرجان كنت وحدك ستكون مليكها ووحدي أنا تتوّجني الأسماك أميرة لم ترمثلها الأزمان.
لم تنم، أعرف أنّ الذي يأتي لجمع التفاصيل لا ينام ، أعرف أنّك قارّة من الحزن ولكنّك مع ذلك كنت مستمتعا بما ترى.. ..مرشّ الزّهر وهو منتصب كغفير الليل وقناديل النحاس ذات الأضواء الخجولة والسّتائر السّماوية والمتوهّجة بدانتيلاّ الغجر الإسبان أيّام كانت نساؤهم تفرشه في سقائفنا وتبيعه بالثّمن الزهيد.لا تتجاهل.. صورتي تلك، وأنا في عنفوان الرّوح والجسد، وتلك ضفائري مرسلة كالريح وخدّي في توهّج لم يستطع إخفاءه الأبيض والأسود، وخصري دارة الحظّ ، وعيني ناظرة إلى مستقبل فسيح كالمرج، أنت ضيّقت براحه وخذلت بهجتي وهشْمت أباريق الحلم البلّورية ورحلت إلى اللاّين تبحث عن نساء من صفيح ، أمهرهنّ لا تحسن نطق إسمك... لا تحسبني أعاتب آو ألوم فماذا ينفع لوم الوردة للرّيح وقد بدّدت بتلاتها وكسّر أغصانها وعادت بعد ذلك تهبّ رخاء؟
ظللت واقفا تدير عينيك في الحجرة المتربة، أعرف ما تبحث عنه.. .لم يعد هنا كرسيّ الخيزران المتأرجح، ولا حتى حشيّة الصّوف بنومتها المريحة، حتى الأشياء لها عمر وتموت. أنا آخر مرّة خيّل لي أنّني رأيت دجاجة بنّية تحضن بيضها في بقايا الكرسيّ ، كدت أصيح وأنهرها ولكنّي عدلت، لم يبق في العمر ما يستحقّ البكاء أو الغضب ، فلتحلم الدجاجة على الأقلّ ولتمنّي نفسها بالسّعادة الأبديّة.
جلست رغم الخراب، كأنّك تتشبث بتلابيب زمن هارب ، ومددت رجليك في هيئة من لا يريد أن يقف أبدا. غبرت برهة ثم عدت إليك محمّلة بأصابع البسكويت التي تحبّها والمرشوشة بحبوب الشّمر ، واللّه لا أعلم من وضعها في المطبخ، فضّة كانت تفعل ذلك.. ولكنها الآن رحلت؟ ثمّ قدّرت أنّ إبنتها حليمة تفعل ذاك وفاء لها ولنا. كنت تأكل بعشق وتغمض عينيك
..لم يترك الدهر في قلبي ولا كبدي شيئا تتيمه عين ولا جيد.
مرّ الوقت سريعا. نزل الظلام كتلة واحدة وبدأت العصافير تعود محدثة هرجا أجمل من الغناء . كنّا طربين رغم أنّ الجرذان البيضاء والسوداء كانت تقرض الغصن ولسنا ندري متى نقع في الجبّ. نهضت كالفزعة، فنهضت إثري أكثر فزعا.
قلتُ: ألا نذهب إلى القبو، وقتك مفلت وأنا لا أقدر على الإبصار ليلا.
قلتَ كالمدنف: انتظري أن أنتهي من البسكويت. ضحكت في سرّي وأنا أرى بطنك وقد برزت...ولكنّك جميل في عيني رغم كلّ شىء
هرولت وأنت إثري تمسح ما علق في شاربك من بقايا البسكويت ولسان حالك يتمتم :كنت أودّ جرعة ماء.....
عندما دفعت باب القبو ، صرّ كما لو كان يصرخ، وتطاير غبار حرب. نطّت سحال وخنافس وخيوط عناكب ، وفاحت رائحة الرّطوبة والحبّ الذي كان يوما يهب الأشجار روعتها ، مددت راحتي أغلق أنفي لئلاّ يعاودني ذاك النّشيج السّخيف، وكأنّما أدركت ذلك فحاولت أن تمسك بيدي. منعتك وأنا أقول: أهرمت إلى درجة بتّ تحتاج فيها إلى التوكّؤ؟
اقتحمنا القبو وعيوننا شاخصة نبحث في غير يقين عن الطّائر، لم نكن ندري أين وضعته فضّة قبل موتها.
هل أقول له إنّ فضّة ماتت ، وبالتالي لن نعثر عليه بالسّهولة التي يتصوّرها. قدّرت أنّ ذلك لن يكون مجديا، وشعرت فجأة بسخف مسعانا، فماذا ترانا نحن فاعلين بطائر خزف كنّا صنعناه ذات لحظة خارجة عن التقويم؟وهل ترانا إذا ظفرنا به استردنا الزّمن المفلت وأعدنا الخضرة للبستان والصحّة للفرس والحياة لفضّة ولشعرنا السواد ولقلوبنا الغناء؟مشينا في تعثّر والغبار غزا حلوقنا فاستبدّ بنا السّعال. والليل ازداد عتوّا فبات من المستحيل أن نبصر شيئا. قلت نؤجّل ذلك لزيارتك القادمة...
رمقتني معاتبا: لم يعد في العمر متّسع لشيء ، إمّا أن أرى الطّائر الآن أو لا أراه أبدا....سرى في جلدي لهيب واقشعّر قلبي. وودت لو أنّي خزنت نفسي بين ذراعيه وشممت بملء روحي عبق عنقه وغبار سفره الطويل ، وهمست له بثلث الكلام الذي كنت أناجيه به وهو بعيد حتى إذا حضر نسيت كلّ شيء. وكعادتي دوما في مقارعة نفسي أمسكت عنانها حتى كدت أمزّق أوردتي. استقرّ اللّيل ولم يعد بالإمكان أن نبصر شيئا، أكوام من السلال والحبال والرفوش المغبرّة والمناجل الحالمة بمواسم بادت، روائح قمح وذرة وزيت وقش وطين وحبق وأنطاع وحطب مبلل وقطران .مواسم وأعياد وأفراح وأتراح. الروائح كانت صاخبة ومبعثرة سكينة الروح .لم يعد بإمكاني أن أقاوم فسقطت على ركبتيّ جاثية ، وكأنّما همّ بمنعي ولكنّه تهالك هو الاخر وانخرطنا في نشيج خلته يزهق روحينا...
كم مرّ من الوقت...لا أدري ولكنّ الليل بسط سلطانه فاتمرت بأمره جميع الكائنات وظللنا جاثيين كتمثالي معبد عفا زمنه لا نعلم في غمرة ذاك السّديم مانحن؟ ولم قيّض لنا قدرنا أن نعيش على هذا النحو الخرافي وأن يستحيل عشقنا أسطورة ونحن لا نعدو أن نكون امرأة ورجل طمعا في ما يطمع فيه الناس جميعا :قطيع غزلان وحجل وساحة مفتوحة على الفجر وأبواب تنادينا إذا حلّ المساء، وموقد يصطلي بأوار قلبينا وذكريات نستظلّ بأخضرها إذا عمّ اليباس.
مددت يدي في ظلمة الليل أستجير بيده ففجاءني الفراغ، وعندما أصغيت ولم أجد نفسه صرخ قلبي وعلمت أنّه انسحب وما أدري إذا كان في العمر متّسع لأملأ بعد عينيّ بنور عينيه ونبحث من جديد عن طائر الخزف . وقفت بصعوبة وقد أدمى التراب ركبتيّ وللمرّة الأولى مذ ودّعني شعرت بالهرم.
لكنّي وجدت نفسي أعود على أعقابي دون أن أرتطم بشيء دربي كان مضاء وهيّنا ومتضوّعا برائحة الشمر والحبق والليمون.. .سرت فيّ عزيمة مفاجئة فشعرت ببدني يتجدّد وبالهواء يتخلّل شعري وامتلكتني رغبة في الركض .بدا البستان أفسح من ذي قبل وأشجاره بدت عالية مهيبة ، لم يكن ثمة قمر ولكنّي كنت مبصرة بعيني حبارى، حرّكت ساقيّ فانطلقتا كما لو كنت أطير، تبعتني حباحب الضّوء والفراشات الليلية والخفافيش وكأنّما حدستني المهرة فاعترضتني لاهثة وعرفها مزهر كالرّيحان وعندما حاذتني أرخت عنقها تدعوني إلى الرّكوب ففعلت. اهتزّت وحمحمت وانطلقت بي لم يثنها عن ركضها الليل، كان البستان واسعا بدرجة خرافيّة أو لكأنّ مساحته كانت تتضاعف ساعتها ونثّ مطر دافئ وتضوّعت رائحة الطّين، قلت لو كان هنا لكنّا قصدنا النّبع الأزرق وهناك نستحمّ ونتخفّف من همومنا ، وهناك أغسل شعره وأشمّ عنقه وتعود روحي من غربتها الطّويلة.. كانت المهرة تركض كآنما تطير والليل أزرق وأنا تناثرت سنيّ فغدوت طفلة وأنت على حين غفلة بدوت لي في الناحية الأخرى من الأفق ووجهك شاحب كالملاك...لكزت المهرة باتجاهك لكنك كنت تبتعد كلّما خلتني أقترب منك حتى خلت روحي تهرب منّي ونزعي يراودني...توقفت المهرة فجأة، خلت أذى أصاب إحدى قوائمها فجزعت وأنا في اللاأين والبستان لم أعد أدرك شرقه من غربه وأنت تعاليت في السّحاب ووجهك كبرق ممطر وقلبي في وهن الموت ، أغمضت عينيّ أستجمع ذاكرتي وكفّي تربت على المهرة لتهدأ لكنّ صفيرا خافتا أجبرني على فتح عينيّ، ظللت أدير عينيّ في كلّ اتجاه والصوت آخذ في الارتفاع ، كان جميلا بدرجة موجعة ورائحة قمح أخضر طغت في المكان...خلتني أحلم وأحسست نفسك على كتفي وعندما التفت إلى الشجرة التي على يميني كان الطائر هناك بريشه الطيني الأخضر وعينه الصافية ولكنّي لم أر جناحه مثلوما كما كان آخر مرّة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.