دقيقة صمت... وبعد الصمت والوجوم الذي غشي الوجوه، تأتي التحية على وقع تحية النشيد الرسمي اصطف لها المربون والتلاميذ في نظام وحسن انتظام.. مشهد عاشته المدرسة الإعدادية دار الأمان بالقيروان منذ أيام.. وما تلته من أيام حزن عاشته هذه المؤسسة التربوية بكل مكوناتها أساتذتها تلامذتها طاولاتها ومكاتبها... ولا تسل عن وحشة ذلك المكتب الذي حضر صاحبه بالغياب... وكان لغيابه وقع لا أقول على المؤسسة التربوية وحدها بل على جميع مدارس ومعاهد القيروان كيف لا وقد غاب الأستاذ والمدير والأب ومهديدها شمعة مضيئة وثمرة أحسن رعايتها فحسن قطافها. فقد غيب المنون المربي الفاضل والمدير المناضل السيد عبد الحميد بن بلقاسم بعد صراع واستماتة مع مرض عضال، المنية اختارت هذا المربي وخطفته من محبيه وتلامذته ومدرسته (إعدادية دار الأمان بالقيروان). بداية مرضه كانت داخل حرم المؤسسة أعطى من جهده وفكره وعرقه ووجدانه الكثير حتى كأنه لم يدخر لنفسه ولأسرته بعض الرمق فقد ألمت به جلطة دماغية وانتابته في غفلة من نشاطه وهويستعد لمفتتح سنة دراسة جديدة (20092010). ثلاثة أشهر قضاها المربي المناضل ينازل نازلة المرض، قضتها أسرته والأسرة التربوية جمعاء تترقب شفاءه وتدعو له بالعافية والعودة إلى حظيرته التي لم يكن يهدأ فيها لكن الشهادة التي كتب له أن ينالها قاومت رغبة الجميع في بقائه فناداه القدر للقائه. ويوم غاب ذات شتاء حجبت الغيوم صفاء القلوب التي توزع حبه عليها فاجتمعت له بالعزاء والمواساة تقتفي جنازته الخاشعة كما كانت تقتفي اثار الطباشير على سبورته وإشاراته وصدى صوته يتردد في أركان أكثر من مؤسسة تربوية سجل في دفاترها حروفا مضيئة تذكره أبدا. من قال إن المربي عبد الحميد غاب عن الساحة التربوية وهوالذي جمع لموعد السفر مئات الأشخاص هم بين تلميذ أتقن صنعه وصديق أضاء دربه وقريب آنس ظلمته وأسرة أظلها بجانحيه جمعهم ليلقي فيهم «حجة وداع» تركها وصية في عقبه تنير أكثر من سبيل، وكما قيل «كفى السماء نجوما لا عداد لها وليس يكسف إلا الشمس والقمر». يذكره من تعود أن ينسى ويعرف فضله من عرف الجحود ويوم لبى نداء خالقه تبعته أكثر من عبرة وعبارة وذكرى تلاحق أصحابها في كل مكان... فمن سينساك يا سيدي، كانت الجريدة لا تفارقه يتلقفها مع قهوة الضحى «شروقا». الكل تلقى العزاء وتبادلوا السلوان بينهم... بل ومن ليس من أهله وهو الذي قضى 27 سنة من عمره وهبها لتربية النشء على روح الاجتهاد والوطنية واحترام المربي والانضباط. سجله التربوي تحصل المربي الفقيد عبد الحميد بن بلقاسم على الإجازة في التاريخ والجغرافيا من إحدى جامعات العراق، انتدب للتدريس (أستاذا) بتاريخ 01 أكتوبر 1982 إلى غاية سنة 1989 قبل أن يتقلد زمام الإدارة كناظر دراسات بعد أن تدرج في الترقيات. ولأن طموحه وافر بقدر عطائه فقد عهدت إليه إدارة المؤسسة التربوية بعد أن أثبت كفاءة عالية وفارقة ويحفظ سجله علامات مميزة جعلته يتمتع بالتنفيل والتدرج في أكثر من مرة ويبلغ أعلى الأرقام القياسية. بعد 13 سنة بالمعهد الثانوي بنصر الله قضاها بين أستاذ وناظر ومدير، خلف فيها إرثا وتقاليد عمل مميزة قبل أن ينتقل إلى «المدرسة الإعدادية دار الأمان» التي أدارها صوب وجهتها التربوية الصحيحة منذ سنة 1995 إلى غاية 2009 أنشأ فيها تقاليد العمل التربوي السليم فحصدت أعلى الجوائز التربوية والرياضية والثقافية. من قال إن المربي غادر زملاءه وتلاميذه وأصدقاءه وأقاربه فصورته لا تغادر الأذهان وصدى صوته يتردد صداه في الآذان ضحكه وغضبه للحق ومواقفه الحازمة وحلمه ودفؤه وحرصه. قد يسافر الجسد خارج المؤسسة التربوية لكن إثارة باقية قد يتغيب عن مكتبه لكن الانضباط الذي رسمه باق. الكل يشهد بكفاءته ويقر له بجهوده والكل كافأه والجمع ودعه بالدمع والشكر موصول لمن آزر أهله من مربين وأقارب وأصدقاء كيف كان سيرد الجميل لو لم يسافر.. لقد أزجل العطاء ووفى وما بقي عليه من دين طاب بمقدمك الثرى، يا من شهد بفضلك الورى.