بين الجدب والخصب، بين التعاسة والسعادة، بين القول والصمت، يكرّس الشاعر دقائق عمره لتجسيد رغبة الكائن وصراعه الوجودي من أجل صياغة نشيد الحياة الذي يعطي لحياته معنى. إن ردّة الفعل وجدار الصدّ لدى الشاعر في هذا الزمن الطاحن هو الحلم بتشكيل عالم رومنسي يقف باقتدار أمام العالم الخرب الذي يحياه بالرغم منه في هذه المجموعة تتظافر مفردات الفراشة، الوردة، الطير، الماء، النهر، الأمطار، الموسيقى، الليل لتشكيل فضاء حيويا يكرّس من خلاله الشاعر رغبة طاغية في الخروج من الزمن الموات والانسلاخ من ربقة الفجيعة التي تحيط به، ثم أليست الطفولة وطقسها البهيج وسيلة للتحصّن من الخراب والإبحار تجاه أمل ما: «أتذكر الآن صديقا كان../ لن أتذكّر.. ما جدوى التذكّر؟!.. اصعد فقط../ مثل سماء أخرى/ أنا حمّال أحلام أيتها الذكرى، كلما انهمرت أمطار/ وأوغلت في الموسيقى عصافير/ سوف أعود لمياه النهر/ وصخب الأطفال» (ص 95). الطفولة وطقسها البهيج تحضر بكثافة في مجاميع الشاعر السابقة وفي هذه المجموعة ينغمس الشاعر في طفولته فهو لا يستدعي حضورها بل يعيشها قصد مغالبة الزمن العبثي ولينأى قدر الامكان عن فجاجة وخواء الكون: «يكبر الطفل ويستقيم في صمته/ كائنا لا تحرّكه الطبول../ يتوسّد أحلامه الفاخرة/ كان لا بدّ من أرواح للأمكنة/ لتعمّ الكلمات/ كان لا بدّ من أنثى وموسيقى ليخرّ الدمار/ موحشة هذه الأزمنة/ وموجع نبضها» (ص 21). حشد من الأسئلة تقضّ مضجع الشاعر وتؤرقه، تتوالد التساؤلات التي تكشف حيرة الذات الانسانية أمام عتمة الوجود وأسئلة المصير في الحاضر وهي أسئلة مشحونة بالرعب الذي يصل أحيانا حدّ العبث والعدمية ونورد هنا نماذج لهذه التساؤلات المبثوثة في العديد من القصائد: هو صمتي. فمن يصغي لموسيقاه..؟/ للصمت فتنته/ وقاماته وله ألوان.. ذو رايات شتى/ فمن يوقف هذا الضجيج؟ (ص 23). ماذا فعل الأوائل لنكشف أسرار الوقت؟/ ما جدوى الماء في الأرض الصحراء الصفراء..؟/ ما جدوى الكلمات؟/ ما الصمت دون موسيقى؟/ ما الموسيقى؟/ ما جدوى الأسئلة دفعة واحدة» (ص 44) أتذكر الآن صديقا كان/ لن أتذكر.. ما جدوى التذكّر؟/» (ص 95) ويستمرّ نزيف الكائن يتأرجح بين اليأس والأمل بين الوجود والعدم بين السلبية والايجابية، ويحتدّ الصراع داخل الذات الشاعرة وإذ به ينتصر بالكلمات وللكلمات فهي زورق النجاة الباقي في الخضمّ العاتي الذي يحياه الشاعر المتمثل في كوننا يزخر بجرائم الحروب والمجاعات ومظاهر الاستبداد وانتهاك إنسانية الانسان وتتالي الأناشيد احتفاء بالكلمة: «لا.. لا تكترث أليست الشمس مهد الكلمات؟» (ص 40) »لأسباب أخرى/ يطول صمتها/ تينع/ أزهار/ في الكلمات/ أسباب أخرى/ جعلت من الشمس مهدا يجدر بالكلمات» (ص 127). «موعودة تلك الكلمات للأمكنة للشعراء وللمياه ولكل شيء هادئ» (ص 137). في مجموعة «سيكون هناك سبب..» يواصل الشاعر نحته لقاموسه اللغوي المشحون بالمفردات ذات الجرس الموسيقي الفاتن الشفيف ويشتغل على التشذيب العالي لنصوصه حيث التكثيف والاكتناز مما يجعلنا أمام كتابة خالية تماما من الزوائد اللغوية والثرثرة المجانية، كما يبدو في هذه القصائد جليا العمل على غناء قصائده بالموسيقى الداخلية أو الإيقاع الداخلي حيث يطنب في اختيار الألفاظ التي تتكرّر فيها حروف يغنيها مما يزيد في حدّة وقعها على وجدان المتقبّل مثل تكرار حرف الشين (ش) في هذا المقطع: «لماذا تنتحر الكلمات في الشفاه/ وتئنّ نايات وفراشات/ مع أن الشمس تبزغ كل صباح معلنة/ دفء الأرجاء/ يا لفداحة المشهد» (ص 19) أو على هذا النحو مثلا: «صمت العازف والنازف والأرض الموعودة بالأجزاء» (ص 27) وهنا نقول أن العمل على تفعيل وتشكيل جرس موسيقي في قصيدة النثر يعبّر عن فطنة الشاعر وإدراكه التام لآليات الكتابة الشعرية، إذ من شأن الاشتغال على الإيقاع الداخلي واستنباطه داخل القصيدة النثرية أن يوفّر جمالية مطلوبة في كل الحالات لإكساب عملية التلقّي نجاعة تضرب عميقا في الوجدان والكيان: كان إذن لا بد من ضجيج الزحام ليعلو الصوت الواهم.. الموهوم، المنفلت، الواضح، الفاضح، القويّ، الشجيّ، السخيّ، المسموع، المدفوع، المهموم، الصادح.. لكن مرآة الوقت والشعر تتكسّر معلنة في سرّها فراغاته (ص 35). إن لبّ العملية الابداعية في كتابة الشعر هي الصورة الشعرية وقد أولى الشاعر اهتماما كبيرا لهذا الجانب فجاءت القصائد حبلى بصور شعرية ممتعة شكّلها انطلاقا من ثقافته التشكيلية وقدرته على التخييل وها نحن نثبت هنا البعض منها على سبيل الذكر لا الحصر: مضت طيور في حقول الغناء العالي. لكن للأشجار ستظل هكذا.. هي تمطرنا بالخضرة والظلال. بضحكته العارمة فقط، آوت الى أحضانه الكائنات. وأعلن أن البحر أرض لتحليق آخر في السماء. أبصر الآن بطش الرغبات.. رشاقة الفوضى وهي تنبت في الأرجاء. أطلق أسرار العشب في سماء صاعدة. ترتدي العشق ومن فرطه تنصرف العطور الى جهاتي. أقضم شهوتها وأطفئ هوة في جنون. للشاعر حساسية كبيرة تجاه الألوان ومكوّنات اللوحة التشكيلية إذ تتماهى أسطره الشعرية مع التشكيل الفني: تغيب الشمس بعد أن لطخت بالضوء جهة من البيت القديم. مرّ الأطفال الموعودون بأغصان الزياتين مرّ الأزرق والأخضر وألوان شتى. دون إذن حيث الاقامة بين الأخضر والأحمر في أمكنة تسع موسيقى الانسان. صمت الألوان وبياض في القماشة تجاه سقوطات وخرائب أخرى نقول هذا باختصار شديد لأن شعرية اللون في هذه المجموعة وفي مجاميع الشاعر السابقة تحتاج دراسة وبحثا مطولا لحضورها المكثف ولعل الوقت يسعفنا في قادم الأيام لنلمّ بهذه الخاصية في شعر الشاعر. المرجع: سيكون هناك سبب المؤلف: شمس الدين العوني