ما انفك اليهود عامة في إسرائيل خاصة يصرون على أن «الفوهرر النازي أدولف هتلر» قد أحرق ستة ملايين منهم أثناء الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي لم يكن عددهم في العالم يتجاوز اثني عشر مليونا في تعدادهم الذي يعلنونه، فكم كان عددهم في ألمانيا التي يوجد بها هذا الفرن البشري الذي يزعمونه حتى تطوله أيدي هذا السفاح النازي؟ مهما كان نصيب هذه المزاعم من الصحة فإني لا أحبذ قتل أي إنسان مهما كان مخالفا في العقيدة والدين والرأي حتى ولو كان عدوا لدودا، فنحن جميعا ضد ما فعله هتلر وزبانيته في اليهود سواء كانوا ستة ملايين كما تزعم إسرائيل أو حتى لو كان شخصا واحدا، أما مَن مات في الحرب من هؤلاء أو أولئك، فكل فريق يعد قتلاه شهداء ويعد قتلى الفريق الثاني مجرمين، «وعند الله تجتمع الخصوم» والله أعلم بالحقائق. وما أحسن ذلك المعنى الذي قاله بالفرنسية شاعر فرنسا الأكبر «فيكتور هيغو» وصاغه أحدهم بالعربية نظما هكذا: قتل امرِئٍ في غابةٍ جريمة لا تُغتفرْ وقتْل شعبٍ آمِنٍ قضيّةٌ فيها نظرْ ورغم أن إسرائيل قد ظلت، منذ الحرب الكونية الثانية، تجترُّ التنديد بهذه «المحرقة» التي يشكُّ الكثير من الموثقين في وقوعها أصلا، ويفنِّد البعض في عدد الذين وقع الزج بهم فيها، فقد ظلت تلاحق أعوان هتلر الذين نفّذوها، حتى عثرتْ على «أوفمان» وهو أحد أعضاد هتلر في حربه ضد نصف العالم وضد اليهود، فقبضت عليه ونقلته خلسة حيا من أمريكا الغربية إلى تل أبيب وحاكمته فيها، وقضت عليه بالإعدام حرقا ولم تدفنه في تلك الأرض أو خارجها لكي لا يصبح مزارا للنازيين أو سواهم، ومن أطرف ما سمعته من النوادر في ذلك الوقت أنهم قالوا له قبل إعدامه: «ماذا تشتهي أو تريد قبل تنفيذ حكم الإعدام؟» فقال: «أريد أن أعتنق الدين اليهودي قبل موتي.» فظنوه أراد التعبير عن ندمه على ما فعله بهم، فسألوه عن سبب هذا الطلب، فقال: «لكي تقتلوا يهوديا آخر بقتلي». وبذلك تأكد لديهم أو لدى واضع هذه النكتة كرهه لليهود. هذا ما فعله هتلر بهم أو تضخيم لما فعله بهم، أما نحن المسلمين فقد أمرَنا الله تعالى في كتابه العزيز بالإيمان بكافة الرسل والأنبياء، مِن أبي البشر آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في كثير من الآيات مثل قوله تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورُسُله ويريدون أن يفرّقوا بين اللّه ورُسُله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفُر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقّا و أعتدنا للكافرين عذابا مُهينا والذين آمنوا باللّه ورُسُله ولم يفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورَهم وكان اللّه غفورا رحيما} (سورة النساء الآية 150) ومادام المسلمون مأمورين بأن يؤمنوا بجميع الأنبياء بما فيهم صاحب الديانة اليهودية موسى عليه السلام، فإن المسلمين ليست لهم عداوة مع من يعتنق الدين الذي أتى به، ولم تحصل العداوة بينهما إلا في حربهم من أجل احتلالهم لأرض فلسطين وما انجر عنه من تغيير اسمها إلى إسرائيل، بدليل أن المسلمين كانوا قد حموا اليهود من النصارى في العهود الماضية وقالوا لهم: هؤلاء أبناء عمومتنا وهم في حمايتنا وظلوا يعيشون تحت حمايتهم وقتا طويلا. والمؤرخون اليهود يعرفون ذلك ويُقِرون به. وما زلت أذكر أن كثيرا من التونسيين كانوا يستنكرون ما فعله هتلر باليهود في الحرب العالمية الثانية، رغم أنهم كانوا لا يتفقون معهم في العدد الذي وقع إحراقه، وكانوا يشيعون أن هتلر كان ينوي أن يبيد بعدهم الجنس السامي ومنهم العرب. بعد هذا أود أن أذكر الخبر التالي الذي يكاد يكون طُرفة أو نادرة، وهو دليل على أن اليهود كانوا تحت رعاية والٍ من ولاة فلسطين وتحت نظر الباب العالي في تركيا أيام الأمبراطورية العثمانية التي كانت تحكم العالم الإسلامي من الخليج إلى المحيط، وخلاصة هذا الخبر أو الطرفة أن أحد الخلفاء العثمانيين أرسل إلى واليه على فلسطين «فرمانا سلطانيا»، أي أمرا علِيّا يقول له فيه: (احصِ مَن قِبلك من اليهود!) أي «أرسل إليّ إحصاءً بعدد اليهود الموجودين في جهتك!» فوَنَمت ذبابة فوق الحاء(أي وضعت إحدى فضلاتها على الحاء من فعل احص فصارت اخص) فخصى مَن عثر عليهم منهم، ولعله بهذا التصحيف الذي تسببت فيه ذبابة قد فعل فيهم ما لم يفعله هتلر في الواقع لا في التضخيم اليهودي لمَحرقة الهولوكوست، وهي كلمة يونانية أو إغريقية معناها مَحرقة. ومهما يكن نصيب هذه الطرفة من الصحة، فإن النتائج التي انجرت على فعلتها لا تعود إلى كره الباب العالي لهم، ولا إلى واليه على فلسطين، وإنما إلى فعل غير إرادي من ذبابة غير مسؤولة عن فعلتها التي نسميها خطأ: «ضرورة بشرية» ولا يمكن لأحد أن يحمّلها المسؤولية فيها. وليْتهم حملوها المسؤولية ليشِنوا عليها وعلى جميع أنواعها حربا مبيدة حتى يريحونا منها كما أراح الصينيون بلادهم الشاسعة من الذباب، فقد قال الطاهر قيقة عندما زار الصين في الستينيات من القرن الماضي إنه لم ير بها ذبابة واحدة، وقد زرت شخصيا الصين في السنة الأخيرة من القرن الماضي وتجولت في عدة حارات عتيقة في كثير من البلدان والقرى فلم أصادف هناك ذبابة ولم أسمع لها طنينا. فلماذا يبيد اليهود الشعب الفلسطيني رغم أنهم يعلمون أنهم ليسوا من سلالة هتلر كما لا يمكن أن تكون لهم صلة بتلك الذبابة التي كانت سببا في تلك الفعلة التي فعلتها في أجدادهم أيام الخلافة العثمانية، وكيف يتصورون أن ينجح التطبيع الذي يسعون إليه مع شعب يفعلون به ما يفعله الذئب مع الخروف؟