لم أستغرب البتّةَ أن تَمنع السلطاتُ الاسرائيليّةُ المفكّرَ والعالِم اللغويّ اليهوديّ الأمريكيّ نعوم تشومسكي من دخول الضفّة الغربيّة.. بل لعلّي كنتُ أستغرب لو أنّ اسرائيل انقلبت فجأة على نفسها، فسمحت لتشومسكي بالقاء محاضرة في جامعة بير زيت والتقاءَ مُثقّفين فلسطينيّين في رام الله. كثيرون رأوا أنّ هذا «المنع» نتيجة طبيعيّة لآراء الرجل «اليساريّة» ومواقفه «المُتَّهَمَة» بمناهضة السياسة الاسرائيليّة ومناصرة القضيّة الفلسطينيّة.. وهو رأي يجد ما يدعمه حتى في «تعليقات» الاذاعة الاسرائيليّة التي جاء فيها أنّ «تشومسكي محسوب على معسكر اليسار الراديكاليّ الأمريكيّ، ويُعتبر من أشدّ منتقدي الولايات المتّحدة واسرائيل.. ووقّع مؤخّرًا على بيانٍ يتّهم الرئيس الأمريكيّ بارتكاب جرائم حرب.. » الاّ أنّ هذا الرأي يفسح المجال للكثير من الأسئلة. فتشومسكي قبل كلّ شيء وبعده «ابن بيئته». ومن «الصعب» الكلام على «يسار راديكاليّ» في الولايات المتّحدة. وهو في رفضه السياسة الأمريكيّة «المتأسرلة»، انّما هو مفكّر ذو ضمير حيّ، يدافع عن مصلحة بلاده، ولا يريد لهذه المصلحة أن تظلّ رهينة اللوبيات النفطيّة العسكريّة الماليّة المتصهينة، التي تتلاعب بالعقول والغرائز، وتضلّل الرأي العامّ عن طريق التعبئة الاعلاميّة. وقد سمحت اسرائيل بدخول أراضيها للكثير من النشطاء المُشاكسين الذين يقولون الشيء نفسه. وأغلب الظنّ عندي أنّ التهمة الحقيقيّة التي مُنع تشومسكي بسببها من الدخول لم تكن «سياسيّة» بقدر ما كانت «لغويّة».. هذا اذا صحّت التفرقةُ بين المجالين.. ولعلّه مُنع أساسًا لأنّه «عالم لغوي» أراد الدخول الى جغرافيا أُقصيت منها اللغة وتعطّل فيها الكلام. كتب تشومسكي الكثير في اللغة وماهيتها وغائيّتها وعلاقتها الجوهريّة بالفكر والأخلاق والسياسة وحتى بالبيولوجيا. كما كتب الكثير في أنّ اللغة يمكن بل يجب أن تكون فعل مقاومة أي فعلَ تحرّر وحريّة. وأنّها لا تتمكّن من ذلك الاّ اذا كانت مساحة تواصل، أي منفذًا مفتوحًا على الآخر.. لا نوعًا من الرطانة.. أو شفرةً منغلقة على نفسها تأكيدًا للذات عن طريق اقصاء الآخر. وهي تسمية أخرى يمكن اطلاقها على العنف. جانب كبير من العنف الذي يشهده العالم ناشئ عن احساس المُستَضْعَفِين بأنّ اللغة أصبحت عاجزة عن التعبير عن واقعهم وأحلامهم. عاجزة عن لفت الانتباه اليهم للحصول على ما يستحقّون من انصات وفهم واحترام. الكثيرون يشعرون بأنّهم لا يملكون هذه اللغة. امّا لأنّها سُرقت منهم وامّا لأنّها أصبحت باهظة الثمن لأنّها في النهاية ليست لغتهم. بل هي لغة قمعيّة مُضلّلة. يصبح تدميرها جزءًا من تدمير قيودهم وجزءإ من هدم الجدران العازلة التي تحيط بهم. وهو طبعًا تناول سطحيّ للمرض، وليس مواجهةً حقيقيّة له. أمّا العنفُ الأخطر، فهو ناشئ عن مرض اللغة من جانب الأقوياء المُصابين بدوار الأعالي، الذين خيّل اليهم أنّهم في غنًى عن الانصات في غنًى عن الحوار.. وشيئًا فشيئًا أصبح العنف لغتهم، ولم يعد من «نحوٍ» لهذه اللغة سوى منظومة من القوانين التي تبيح لهم احتكار هذا العنف.. أي احتكار القتل والقنص على الهويّة والطرد والنفي واحتلال الأرض والتنكّر لكلّ القيم والحقوق.. هكذا أصبح العنف يشهد على عجز اللغة وعلى تعجيزها. يبرهن على انهزام اللغة ومحاولة هزيمتها. يعكس ما طال اللغة من تشوّه وتشويه. بعد أن أخصيت من جوهرها ومرضت فعلاً.. وأصبحت تُرفع كما تُرفَعُ الجدران العازلة فاذا هي تعزل من يبنيها أكثر ممّا تعزل غيره.. واذا صحّ أنّ كلمة كلب لا تعضّ من تنبح في وجهه، فهي قد تعضّ النابح بها لأنّها تشوّه وجدانه وتخرّبه من الداخل.. ذلك ما حدث في اسرائيل تحديدًا.. حيث لم تعد هذه الحقائق وغيرها مُحتملة، لا فيها ولا في أمريكا.. ويكفي للتسليم بذلك أن ننظر الى طريقة ادارة الملفّ الايرانيّ وكيف يغيب تمامًا أيّ حضور للغة مشتركة، وكيف يجوز اختزال الحوار القائم اليوم في استعارة مغادرة الطاولة كلّما تكلّم الآخر.. وهو أيضًا وللأسف، واقع الكثير من العرب والفلسطينيّين تحديدًا. هكذا أصبح خطاب تشومسكي وأمثاله غير مُحتمَل، وأخطر من الصواريخ والألغام، اذ كيف يُسمح لأحد كبار مفكّري اللغة بالدخول الى أرض تُطلب فيها اللغة حيّةً وميتةً؟ من هذا المُنطَلَق أزعمُ أنّ تشومسكي وحتى اشعار آخر، ليس ممنوعًا من دخول فلسطين، بل هو ممنوع من الكلام فيها.