بعد أن واظب عبد المجيد طوال سنة ونصف على ادخار 100د، شهريا بأحد البنوك استعدادا للحصول على قرض سكني، توقف فجأة... مرّ شهر أوّل... وشهر ثان... فثالث، وعجز عبد المجيد عن العودة الى «سكّة»الادخار... وفي النهاية قرّر سحب المبلغ المدّخر.. «أصبحت أمرّ في الفترة الاخيرة بضائقة مالية كبرى... ويلزمني مبلغ 1500د، لعلاج زوجتي من مرض مفاجئ ولم أجد من حل آخر غير سحب المبلغ المدّخر والتوقف عن الادخار». يقول عبد المجيد... المتحدث بادر وواظب مدّة 18 شهرا على هذه «العادة الحميدة» وتخلّى عنها لأسباب قاهرة على حدّ قوله... وآخرون لا يفكّرون فيها مجرّد التفكير، فالادخار خارج عن حساباتهم لأسباب مختلفة رغم مزاياه العديدة التي يتحدّث عنها المختصون البنكيون والاقتصاديون. فلماذا يعزف البعض عن الادخار؟ ولماذا ينخرط فيه آخرون ثم يتراجعون فجأة؟ هل لأسباب مالية خاصة بهم؟ أم لعدم اطلاعهم على مزاياه؟ أم لعدم اقتناعهم بجدواه؟ في الوقت الذي تقول فيه البنوك وكذلك البريد إن عدد المدّخرين لديها يرتفع من سنة الى أخرى، تقول مصادر أخرى إن هذه «العادة الحميدة» تشوّهها بين الحين والآخر ظاهرة التراجع الفجئي والتي يترتب عنها حتما سحب المبلغ المدّخر والتوقف عن الادخار الى الأبد... وتضيف المصادر ذاتها أن التطور المذكور في عدد المدّخرين ليس في المستوى الامثل ولم يشمل كل الشرائح الاجتماعية بل بقي حكرا على البعض... كما أنه لم يواكب التحولات الاجتماعية التي شهدها المجتمع التونسي من حيث ارتفاع عدد الطبقة النشيطة (التي تشتغل ولها دخل قار) البالغ عددها حوالي 4 ملايين تونسي، وكان من المفروض ان يكون عدد المدّخرين أرفع بكثير مما هو عليه الحال الآن... وما ذلك الارتفاع الملحوظ في عددهم الا نتيجة طبيعية لارتفاع عدد أصحاب الدخل القار وخاصة الأجراء. ضروري «الادخار قوام الاقتصاد الناجح للدول... والدولة التي ليس لها مدّخرات تواجه صعوبات اقتصادية ومالية كبرى» يقول خبير بنكي... ومثلما هو ضروري للدول بما في ذلك العظمى والغنية فهو ضروري للأفراد أيضا حتى يقدروا على مجابهة الصعوبات المعيشية التي قد تعترضهم... فالدول تخصّص سنويا نسبة من ناتجها الاجمالي للادخار حتى تجابه به بعض النفقات الطارئة أو تقدر على الحصول على قروض من مؤسسات القرض العالمية... (في تونس مثلا تبلغ هذه النسبة 21.9٪)... ومن المفروض أن ينسج المواطن على منوال دولته بأن يخصص جانبا من مداخيله للادخار... ويذهب المتحدث أبعد من ذلك بالقول إنه كان من المفروض أن يكون الادخار اجباريا للمواطنين، على غرار الادخار «الاجتماعي» الذي يتم عن طريق الصناديق الاجتماعية بعنوان «التقاعد»... فذلك شكل من أشكال الادخار ويكون المبلغ المدّخر (أو جزء منه) صالحا لفترة التقاعد. تعوّد... اتخاذ قرار الادخار يعتبره المختصّون أصعب بكثير من الادخار في حد ذاته.. ويرى سامي (موظف) في هذا السياق أن «الإدخار عادة جيدة اكتسبتها منذ الصغر ورافقتني طوال سنوات الدراسة... واليوم لم أجد صعوبة كبرى، بعد ان حصلت على شغل في تخصيص جانب من مرتبي للإدخار السكني»... وضرب سامي مثل أحد زملائه زمن الدراسة في الجامعة وقال انه كان يدخر طوال السنة الدراسية جانبا من المنحة الجامعية لينفقه في الصيف وهو يتبع اليوم نفس العادة حيث انخرط منذ سنته الأولى في العمل في نظام الادخار السكني ببنك الاسكان. ويقول محسن (موظف وأب لطفلين) في هذا المجال ان المشكل في جيل اليوم أنه لم يتعوّد على الادخار منذ الصغر.. فكل مليم يحصل عليه الابن من والديه ينفقه بسرعة وفي اليوم نفسه ولا يفكّر في اليوم الموالي. ومن الطبيعي أن ترافقه هذه العادة «السيئة» عندما يصبح له دخل قار... «كل ما في الأمر هو التعوّد... ولو أن كل ولي يشجع أبناءه منذ الصغر على ادخار جانب من أموالهم لن يجد الناس صعوبة في اتخاذ قرار الادخار» على حد قول محسن. تمويل ذاتي في العادة يكون المبلغ المدخر موجها إما للنفقات الطارئة (مرض دراسة تنقل...) أو الى توفير التمويل الذاتي لشراء شيء ما عن طريق قرض بنكي (مسكن متجر سيارة أثاث تجهيزات عمل...) وحسب ما ذكره خبير بنكي فإنه لا يوجد في العالم اي نظام تمويل بنكي دون ان يوفر الحريف مبلغا معينا للتمويل الذاتي.. وما ينطبق ايضا على بلادنا، اذ لا يوجد أي بنك أو مؤسسة قرض أخرى تمنح قرضا لاقتناء عقار أو منقول دون توفّر التمويل الذاتي باستثناء بعض الحالات (القروض الشخصية بعض قروض السكن فوبرولوس التي يتكفل فيها صندوق 26 26 بتوفير التمويل الذاتي للمعني...) وبالتالي فإنه لا مفر من الادخار للانتفاع بالقروض البنكية ذات المبالغ المرتفعة. ادخار «في الرّوج»! لا يختلف اثنان في ان تكاليف المعيشة ارتفعت بشكل محلوظ في السنوات الأخيرة لعدة اعتبارات... ورغم ان المداخيل تطورت بدورها ليبلغ معدلها حوالي 4500د للفرد في السنة الا ان الجميع بات مقتنعا بأن «التراب أكثر من الحفرة» على حد تعبير محمد الهادي رويس (تاجر) مضيفا ان أغلب الحسابات البنكية «في الروج» وأغلب الناس «متورطين» مع البنوك في قروض استهلاك (بما ان الحصول عليها سهل) وفي الآن نفسه هم مدينين لأطراف أخرى بمبالغ متفاوتة ويتولون خلاصها شهريا (الشراء بالتقسيط)... فضلا عن النفقات اليومية العادية التي تزيد حدّتها من سنة الى أخرى... «فكيف سنقدر على تخصيص مبلغ شهري للادخار؟». يتساءل محمد الهادي قبل ان يضيف مرافقه حاتم مازحا «الادخار ممكن في حالة وحيدة وهي الحصول شهريا على مبلغ «في الروج» من البنك وادخاره في المنزل!!». ممكن... لكن! الأكثر تفاؤلا بقدرتهم على الادخار يرون انه لا مجال اليوم في ظل ما سبق ذكره من صعوبات معيشية (مادية)، للادخار «المغلق» في البنك او البريد، واستعمال المبلغ المدخر بعد سنوات لتوفير تمويل ذاتي لقرض ما...وكل ما يمكن فعله حسب رأيهم هو الادخار «المفتوح» او قصير المدى الذي يكون عرضة للانفاق في أية لحظة بسبب ضغوطات المعيشة، وعادة ما يدوم هذا الادخار بضعة أشهر فقط.. «لا أتذكر بقاء مبلغ مدّخر، سواء في المنزل أو في البنك، أكثر من شهر قبل انفاقه..» على حد قول عبد المجيد رهيفي... في حين يرى خبير بنكي ان الادخار ممكن وفي متناول الجميع بلا استثناء حتى وإن كانوا من ذوي الدخل المحدود.. اذ يكفي شيء من حسن التصرف حتى نوفر مبلغا ما كل شهر.. ويضرب المتحدث مثلا لذلك بالقول «لو نكتفي بشراء نوع واحد من الغلال مثلا وبامتلاك سيارة عائلية واحدة وبالامتناع عن التدخين وبالحد من الأكل خارج المنزل.. و.. و.. سنوفر كل شهر مبلغا محترما».