يقدم لنا «عبد السلام لصيلع» في مجموعته الشعرية «أموت على أرض الوطن»1 ثنائية الوعي بالوطن وعنف الدلالة ذلك ان قصائده قومية التوجه من جهة وتواقة لمخاتلة الدلالة من جهة أخرى ذلك أن الدلالات تتكاثف داخلها وتحضر بنية النص لتعمق استفهام القارئ. هي نصوص ارتبطت لحظة كتابتها بأزمنة مضت أو هكذا ظن بعضنا. انها مخاتلة الموجود للمنتظر أو مخاتلة النص للقارئ فتصبح أفق الانتظار على غير ما كنا نرتجي، لعلنا أمام حداثة الكتابة أو لعلها أفق القراءة في تعمدها صناعة تشويق المتقبل بخلق جدل بين زمن الحاضر حيث القارئ وما بين زمن الكتابة. أهي موجة التحديث تأخذ الى تأكيد انتمائه للحداثة من خلال اعتماده النص الموازي؟ تتعدد الخطابات ما بين الخطاب الشعري من جهة والخطابات النثرية الموزعة ما بين نص الاهداء وبين روافد نصوص نقدية مصاحبة للعمل من جهة أخرى حيث فضاء يتزاحم داخله «عنف» القراءة والمعنى: وأول هذه النصوص هو الاهداء «الى أصدقائي الاوفياء القدامى والجدد... الذين رحلوا... والذين مازالوا على قيد الحياة... في تونس وخارجها»2 يحتل الاهداء في الشعر العربي الحديث وجودا بصريا متميزا ذلك انه يتصدر مدخل العمل متخذا لنفسه تشكلا طباعيا متباينا مع متن النص، ويتمثل هذا الاختلاف في حجم حروفه وفي ما يتخذه سواده من مساحة حضور على البياض. ان نص الاهداء يمكن أن تتجاوز فيه العين قدراتها الجمالية الى مجال تأويلي فإذ هو حامل لايحاء يحيل الى مضمون تلك الرسالة. «إن عتبة الاهداء تقوم بتحديد خصوصية ونوعية المرسل اليه متجاوزة الوظيفة التزيينية والاقتصادية الى الالتحام برؤية الشاعر، وتعكس عتبة الاهداء نوع العلاقة بين المهدي والمهدى له3، هو ذاك الايمان بالقضية يرفع من منزلة الذات الى الآخر فتتسرب نار الشعر بين مبنى العمل وبين معناه، ان عبد السلام لصيلع في هذا العمل يكثف دلالات المعنى فيتجه ايضا الى فضاء تبويب النصوص النقدية حيث ينتقل الشاعر من باب جديد قصائده الى ما كان كتبه النقاد حول اعماله الشعرية السابقة ساعيا بذلك الى خلق الارتباك الضروري في ذهن القارئ بين النص الشعري الآني وبين ذاك النص السابق، هي مراوحة في الزمان والمكان غايتها البحث عن متعة للقراءة لتكثّف الوعي بالصورة الدلالية تقاربا مع معانيها. «لبداية السفر مكان معلوم يحدد النهاية وبمجرد ما تحس بأن الخطوات تورطت في السفر والايقاعات تملكت الجسد. تضيع النهاية ويمّحي الخط المستقيم تنتهي الكتابة لتبدأ ولا تبدأ لتنتهي بقليل من الماء ينتعش الجسد إنه ماء الكتابة تضجّ الأعضاء بأصوات القادمين والذاهبين. وللايقاع الفردي خصيصته المستترة بتسرب لسواد الورقة وبياضها في المتن والهامش وفي تعدد الخطابات»4. هي الحداثة الفنية تطالبه بصناعة نص ثوري جمالي يدفع بنصه الى أفق جديد حيث جدل المبنى والمعنى. ان الشعر التونسي لا يزال يبرهن على وجود اسماء مضيئة فاعلة داخل الساحة الشعرية العربية ذلك أنه ينوع مجالات حضوره ضمن اللقاءات العربيةوفي دورياتها الادبية وعلى صفحات جرائد أكبر عواصمها وأشهرها. وإذا كان أبو القاسم الشابي قد شغل الناس يومها فإنه امتطى جواد الابداع جاعلا حد الاضافة هو الاساس فإن الشعر التونسي الحديث ذاك الذي نبتت كلماته بعد وفاة الشابي مازال يؤكد للقارئ العربي ومن خلفه ذاك الناقد ان فعل الكتابة لديه قدرة على نسج عجيب الكلام وصوره وقصد لقضايا أمته متخذا له الانسان رهانا. ولعل الشاعر التونسي عبد السلام لصيلع وجد في توجهه الواقعي خير نافذة يطل منها على القارئ التونسي والعربي على حد السواء ليؤكد أن فعل الكتابة لا يكمن في تلك التهويمات الصوفية ولا في تلك الرمزية الهجينة تلك التي توصد باب التأويل وتفتح أبواب المغالطات بل كانت في تقريب صورة الواقع من ذهن المتلقي. انها لقاءات شعرية جادة بين خلجات نفس تؤمن بالصدق الفني وتجعله مقياس تواصل جاد وبين متلق يتعطش الى قضاياه تلك التي تجد في راهنه ومصيره موضوع كتابة. إن ما كتبه الشاعر في هذا العمل يظل رغبة واضحة الى الانتقال بتجربته الشعرية الى باب البحث في تكثيف الدلالة لتعميق حضوره الجمالي في ذاكرة القارئ. لعله ذاك الجدل بين الصوت والعين أو بين الخطابة وزخرفها لبناء نص آخر يستهوي كل قارئ لشعر هذه الأمة. طوبى للأمة وهي تفتح مقروءها على أبواب الاخر لتعلن عن وعي جاد بالقراءة وبالكتابة في آن. 1) عبد السلام لصيلع أموت على أرض الوطن «مجموعة شعرية» الخدمات العامة للنشر تونس 2010 2) مصدر العمل ص 5 3) دكتور محمد الصفراني التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث 1950 2004 ص 140 4) محمد بنيس: كتابة المحو راجع نص: سفر الكتابة ص 13