٭ د. فاتح بن عامر (المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس) انطلق مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية في دورته الثالثة والعشرين يوم 10جويلية 2010 في غير موعده العادي الذي كان في آخر أسبوع من جويلية وبدايات شهر أوت كما هو معتاد وذلك بما ان شهر رمضان المعظم الذي يتزامن قدومه هذه السنة بدايات شهر أوت. وكعادته استقطب مهرجان المحرس الدولي عددا من الفنانين التشكيليين المحترفين من العرب مشرقا ومغربا ومن العرب المقيمين بالخارج ومن دول شقيقة وصديقة كفرنساوألمانيا وإسبانيا وسلوفاكيا وجزر الموريس. كما استقدم من المغرب الناقد والفنان ابراهيم الحيسن الحاصل على الجائزة الثالثة في النقد التشكيلي بالشارقة في دورتها الثانية ونظّم سهرات موسيقية ولقاءات فكرية ضمن منابره التي يشرف عليها الأستاذ المفكّر والناقد محمد بن حمودة وتكريمات للفنانين التشكيليين وعلى رأسهم الرائد التونسي علي بن سالم بمناسبة مائويته والفنان الموسيقي الراحل محمد الجموسي في مائويته كذلك. وفي بادرة هي الأولى من نوعها كرّم المهرجان الحاصلين على شهادة الدكتوراه في الفنون التشكيلية من أبناء الجهة وهم علي الجليطي وسامي القليبي وضياء الأعرجي. بداية ابتدأت نشاطات المهرجان بتدشين معرض يضمّ أعمال الفنانين الوافدين على الجهة والمقيمين بها أمثال الهادي النايلي والمنوبي بوصندل وشهلة سومر ومحسن خلف وخليفة البرادعي ونجوى عطية وعائدة الكشو خروف ومراد الحرباوي وهدى العجيلي وهندة بوحامد وسلوى العايدي وكلود بيريز وفاتح بن عامر من تونس وليزا سرور ودوف ميلول وناتاشا ألبان من فرنسا وياسر الصافي وبهرام حاجو من سوريا ومحمد مطلعة أبو عفيفة من الاردن ومحمد عيضة احمد الثقفي وتغريد البقشي من المملكة العربية السعودية وعبد السلام عمراوي وشفيقة بن دالي حسين وعمار علالوش من الجزائر ونزار ظاهر من لبنان ولينا فونتساليناس وكريستينا روبليديلو من اسبانيا وكارينا كرالوفا من صربيا ودوسواديان سوار من جزر الموريس والطيب العياط من ألمانيا وسعد القصّاب ومحمد نوري الرسول من العراق.. ثم بفتح الورشات التي أشرف عليها الفنانون المشاركون من تونس ومن خارجها والأساتذة المدعوون من الجهة وهي ورشات للفنانين المدعويين ينجزون فيها أعمالهم المستوحاة من زيارتهم ومن إقامتهم بالمكان وورشات للأطفال يشرف عليها الفنانون ويوجهون الأطفال لتنمية مواهبهم وحثهم على الانخراط في الابداع. وقد ساهم هذا التنشيط في تعميم الحسّ الجمالي والتشكيلي عند أهالي المحرس اذ ليس من الغريب ان يحضر عدد لا بأس به من ابناء الجهة وهم فنانون او طلبة فنون في مراحلهم النهائية من الدراسة بعد ان كانوا تلاميذ في هذه الورشات المقامة بالمدارس الابتدائية بالمحرس. وبالاضافة الى هذه النشاطات ذات الصبغة اليومية المتواصلة شهد المهرجان تطبيق مشروع ترميم وصيانة بعض المعالم التشكيلية التي تم انجازها في الدورات السابقة كما شهد ايضا تواصل فكرة المنابر ذات الصيغة الحوارية بين الضيف والجمهور وهي فكرة تجعل من التواصل والحوار المباشر قيمة ومبدأ هاما في ارساء العلاقة بين الجمهور والباحثين تعوّض صيغة التلقي التقليدي في الملتقيات والمنتديات. وقد كان محور لقاء هذه السنة تحت عنوان: التصوير المغربي في عصر الميديا: التسلية في قلب المعرفة. وقد صاغ ورقة عمل هذه المنابر الأستاذ محمد بن حمودة الذي أدار وأشرف على فعاليات المنابر. وقد جاء في ورقة المنابر ما يلي: «عرف التصوير المغربي تاريخيا تآلفا / تنافرا بين التصوير الفطري والتصوير «العارف» وعاش ويعيش التصوير الجزائري في كنف ازدواجية مرجعية تجعل منه البلد العربي الوحيد الذي يجعل من المنمنمات والزخرفة «فنه الرسمي» دون ان يمنعه ذلك بأن ينخرط بإبداعية في خضم تيارات التصوير المعاصر العالمية. كما شهد التصوير التونسي قطبية بين رواد «مدرسة تونس» وبين مختلف تيارات التجريد، لازالت قائمة الى اليوم ولا تختلف الا في درجة الحدة وفي مدى حضورها في الخطاب في نفس الوقت يسعى كل من التصوير الليبي والموريتاني الى شق طريقه. فكيف يمكن الحديث اليوم عن فن مغاربي؟ باعتبار ان من بين سبل بلورة هوية مشتركة تضافر التفاعلات المشتركة مع مرجع بعينه، فإنه يصبح بالإمكان الاهتمام بما يمكن ان يرشح عن القراءة التي تراقب حاصل تفاعلات مختلف تنويعات الفن المغاربي مع «الميديا» هذا المرجع الذي استوعب الكوكب بأسره حتى انه يوشك ان يختزل كل ما خرج عن السياق الكوكبي Planétaire الى مجرد صيغة من صيغ التموضع المحلي. سؤال ولكن أليس من الجائز القول ان الميديا معطوفة على الوسائط المتعددة قد عممت الابداع بشكل غير مسبوق؟ خاصة وقد أصبحت محركات البحث العديدة المنتشرة على شبكة الانترنات، تقوم بدور كثير من أوعية المعرفة التقليدية التي استخدمها الانسان منذ القدم كالموسوعات وغيرها من الأوعية المرجعية. وهو ما يموضع المعرفة والإبداع في قلب التجارة تماما كما قامت السينما بوضع التسلية في قلب المعرفة. ألم يتم فتح مجال التصوير الراهن على لا نهائية التضمين بحيث لم يعد المصوّر مشغولا برسم القطة وإنما برسم موائها، وفق عبارة فاروق يوسف؟. وفعلا تطرق الباحث المغربي ابراهيم الحيْسن الى هذه المسألة بعمق على المستوى المغاربي، مما أثار عديد الاسئلة حول نوعية الممارسات التشكيلية المعاصرة بالبلدان المغاربية من ذلك تواصلها مع وسائل الاتصال الحديثة ومواد الاتصال والابداع ومدى شرعيتها ومدى علاقتها بالموروث الحديث من فنون مغاربية. اما الباحث والدكتور علي الجليطي فقد تطرق الى خصائص الخطوط المغربية متواصلا مع بحوث كل من الدكتور الحبيب بيدة والراحل الفنان علي ناصف الطرابلسي في تأصيل البحث حول جمالية الخط العربي المنتج والمبتدع ببلاد المغرب. وقد أثار الباحث جملة من الاسئلة حول علاقة هذه الخطوط بما يتوفّر في مجالات الاتصال الحديثة كالانترنات ودفع عديد الحاضرين الى تدارس ابداعية الخطوط المغاربية على غرار الخطوط الكلاسيكية المشرقية وخاصة منها الكوفي القيرواني والخط المغربي المتفرّع الى عدد لا يحصى من الخطوط المودعة بالمكتبات المحلية والغربية. وقد تخلل هذه المنابر تكريم الفنان الراحل علي بن سالم من طرف الهادي النايلي باللغة الفرنسية لا سيما وأنه عاصر الفقيد وعايشه فترات كبيرة من الزمن وقد تطرق الى خصائص أعماله وإلى أهمية مدوّنته وأسلوبه وأبعاد ريادته. اما باللغة العربية فقد قدّم كاتب هذه السطور نصّا تكريميا باللغة العربية نورد بعضا منه: «تستلّ التجربة التشكيلية للرسام علي بن سالم أسسها ومقوّماتها من خلال ما يتمتع به هذا الفنان من طول في التجربة واستمرار في الابداع الى حدود وفاته عن سنّ تناهز الواحد والتسعين سنة كذلك من خلال ما يتميّز به من أسلوب شخصي امتدّ اكثر من سبعين سنة من الانتاج. ويقول علي اللواتي ان الرسوم المائية التي أنجزها علي بن سالم تحمل في طياتها جميع المعطيات الجمالية والتقنية لإبداع هذا الفنان على مدى نصف قرن من ذلك غياب التزمين ولا واقعية الشكل واللون مما يؤسس لوجود مستقل لفضائه التشكيلي. ولعلي بن سالم تفرد في تجربته واستقلاليته عن التكتلات التشكيلية سواء قبل الاستقلال او بعده. لقد ولّد تواصل عطاء علي بن سالم منذ الثلاثينات من القرن العشرين والى نهايته تراكم التجربة وضخامة المنجز التشكيلي الموزّع في كامل انحاء العالم، اذ تواجد وعرض بأمريكا وأوروبا وتداولت العديد من المعارض والمؤسسات والمتاحف أعماله». وقد أرفق التكريم بعرض لعدد كبير من اعمال الفنان الراحل حتى يتسنى للحاضرين من التونسيين الجدد ومن الوافدين التعرف على ابداع الفنان. وتم تكريم الفائزين المغاربيين بجائزة النقد التشكيلي بالقاهرة وهما المنذر المطيبع من تونس الجائزة الثانية وابراهيم الحيسن من المغرب الجائزة الثالثة. كما تخللت المنابر استضافة للفنان السوري ياسر الصافي الحفار والرسام الحاصل على شهادة الدكتوراه بالحفر ورئيس قسم الحفر بالجامعة السورية، حيث استعرض اشواطا من تجربته التشكيلية وقدّم اعماله في الحفر والتصوير. وفي معرض حديثه عن أعماله اشار الى ان المتلقي عادة ما يعتقد بأن الرسومات إنما توحي بعمل أطفال لكن الواقع هو ان الحرفية الموسومة بها وإبداعيتها تتجاوز هذه الرؤية المباشرة للعمل لتعانق فضاءات ارحب لعمل تشكيلي محترف. وتتمتّع تجربة الصافي بنفس انساني عميق فيه جرأة وحرية أثناء التعامل مع الفضاء التشكيلي. شعر وتخللت ليالي المهرجان حفلات موسيقية وأمسية شعرية للشاعر المنصف الوهايبي اختتمها بإمضاء آخر اصداراته عن دار محمد علي للنشر. كما افتتح المعرض الخاص بانتاجات الفنانين اثناء الإقامة بالمحرس يوم 20 جويلية 2010 اثر احتفال بهيج كرّم فيه الحاصلين على شهادة الدكتوراه في الفنون التشكيلية وهم علي الجليطي وسامي القليبي وضياء الأعرجي وتم في الأثناء توزيع الجوائز على الأطفال المشاركين والفائزين بأعمال الورشات وإسناد الميداليات والشهائد للمشاركين في المهرجان. هذا ويختتم نشاط المهرجان بتاريخ 24 جويلية الحالي، وفي العموم حقق المهرجان أبعاده المعتادة من استقطاب التشكيليين وأبناء المحرس المقيمين والمهاجرين كما حقق البعد المغاربي ضمن أبعاده الدولية وصار منبرا مغاربيا دولي الطابع يربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.