تشهد طرقاتنا منذ شهر رمضان يوميا مسرحيات عنيفة وبذيئة، بحجة الصيام. وفي صبيحة يوم الخميس الماضي كان باب العلوج بالعاصمة مسرحا لمعركة غريبة بين سائقي سيارة أجرة حول الأولية على الطريق. وبعد تبادل «القصف اللفظي» عبر النافذة، قرر أحدهما أن ينزل مهددا: «توه أنحيلك...»، ولم يكن الآخر أقل جرأة، فقال له: «توه نوريك أشكون آنا» وتخانقا في الطريق العام فيما كانت سيارتاهما تعطلان حركة المرور. والغريب أن الخلاف بينهما لم يسفر عن أية خسائر مادية للسيارتين ولم يكن هناك ما يدعو الى العراك أصلا. وبعد فك الاشتباك، قال أحدهما مهددا: «باش تعرف أنا شكون». لم نعرف نحن الذين تعطلنا على الطريق من يكون هذا السائق المهم، لكن من المؤكد أنه قد ندم بعد الافطار على ما فعل بنفسه وبالناس، لسبب وحيد على الأقل، هو أن ما حدث لم يكن يستحق كل ذلك الخناق. وعلى الطريق الحزامية الشمالية للعاصمة، على مستوى جسر الجمهورية عند الساعة الثالثة بعد الزوال كان الازدحام على أشده تحت حرارة الصيف لما حدث اصطدام خفيف بين شاحنة صغيرة وسيارة ادارية يقودها كهل تبدو عليه علامات الاحترام والوقار. كان يمكن أن تمر الحادثة بسلام وأن تقف الخسائر عند حد المصباح الأمامي الأيمن للسيارة الادارية مع اتفاق السائقين على تسوية المشكل بوثائق التأمين والاعتذار لبعضهما، لولا التوتر المفرط الذي أدى بهما الى مسرحية عنيفة وبذيئة لا تحمد عقباها والى تعطيل المرور عدة دقائق. كان سائق السيارة الادارية هو الذي بادر بالعدوان بعد الحادث، اذ نزل من سيارته وتخلى عن وقاره الظاهر وصرخ في سائق الشاحنة بعبارات شديدة الوقع أقلها: «حيوان، بهيم، جحش، قرد». أما سائق الشاحنة، فقد حاول أن يعتذر في البداية ثم انخرط في عملية «الرد على مصادر العدوان» بعبارات يندى لها جبين الرجال، حتى أن الكثير من السواق أغلقوا نوافذ سياراتهم تفاديا لسماع المزيد من الكلام المخل بالآداب العامة. وقال لنا سائق سيارة أجرة ان أكثر ما يراه هذه الأيام على الطريق هي شظايا بلور مصابيح السيارات. غضب الثور أما أغرب ما حدث بسبب الصوم، فهو ما رواه لنا أحد الشهود الثقاة، وكان ذلك على طريق حمام الأنف قبل أذان المغرب بساعة تقريبا، اذ عمد أحد السواق المستعجلين الى المجاوزة دون استعمال الاشارة الضوئية مما جعل السيارة التي وراءه تصطدم به من الخلف فتحطمت أضواؤها. توقف سائق السيارة المخالفة واعتذر مستعدا لتبادل وثائق التأمين، غير أن سائق السيارة المتضررة كان في حالة «صيام واضح» وخطير أيضا، عوض أن يتبع الاجراءات المعمول بها فقد أخرج من صندوق السيارة آلة رافعة، توجه الى السائق المخالف وسأله بحدة و»الشرر يتطاير من عينيه»: هل عندك ضوء تغيير الاتجاه ؟ رد السائق الآخر بخوف نعم، قال السائق الغاضب:»اذن لماذا لم تشغلها؟» قال الآخر: «سامحني، والله نسيت، عقلي موش معايا». عندها قال السائق الغاضب: «آه، خسارة، كانت عندك أضواء، أما الآن فلم يعد لديك أي ضوء في سيارتك» ثم انهال على سيارة خصمه محطما أضواءها الأربعة بالآلة الرافعة ثم انصرف بسيارته المعطبة وهو يتنفس الغضب مثل ثور دون أن يقول شيئا لتفسير ذلك. ندم المحامي ومن أفضل الشهادات التي سمعتها عن «السياقة في حالة صوم» ما رواه محام في العقد الخامس من العمر، عن خلاف حدث له مع سائق آخر على طريق العودة الى البيت. يقول محدثنا ان سائق سيارة عائلية صغيرة حاول وسط الزحام أن يفتك مكانه في صف السيارات الطويل على الطريق نحو ضاحية أريانة، وفي الحالات العادية، كان سيسمح له بذلك دون اشكال، أما في تلك اللحظة، فيقول: «عندها انتابتني حالة نفسية غريبة، أشد من حالة السكر المفرط، بدا لي ذلك السائق الشاب مثل عدو لدود، يجمع كل صفات الشر في الدنيا، فهو يريد افتكاك مكاني، وعليّ أن ألقنه درسا في الاحترام». اندفع المحامي بسيارته بسرعة وعنف ليقطع الطريق أمام السائق الشاب الذي لم يحسب حساب هذا الموقف فاصطدمت مقدمة السيارتين ونزلا لمعاينة الأضرار. يقول المحامي: «أحسست في تلك اللحظة بمشاعر غريبة عني، مشاعر عدوانية تدفعني الى تأديب هذا الشاب المتهور بأقصى عنف، لذلك صفعته وركلته مرارا حتى افتكوه مني، وقد سولت لي نفسي في تلك الساعة تهديده برميه في السجن كما لو كانت مفاتيحه عندي». كان المحامي يروي هذه الحادثة بأسف عميق، قبل أن يضيف انه أحس بندم لا حدود له بعد الافطار الذي لم يستسغه لسوء ما فعله، ودفعه الندم الى البحث عن هذا الشاب للاعتذار له. يقول المحامي: «والله أقر لكم أن حالة الغضب التي عشتها تلك الساعة لا مبرر لها، حالة أسوأ من السكر». لحظات ما قبل الافطار لا توجد احصائيات عن الحوادث الخاصة بشهر رمضان في تونس، لأن الاحصائيات تتم وفق الأشهر الميلادية وليس القمرية. كما أن الحوادث في تونس تختلف وفق الفصول وليس شهر الصيام، ففي الصيف يرتفع عدد السيارات في تونس نتيجة عودة المهاجرين وقدوم السياح الجزائريين والليبيين. بحثنا عن حوادث المرور التي لها علاقة بشهر الصيام لدى خبير متخصص في التأمين، قال لنا: «في شهر رمضان، تستريح البلاد من الكوارث الناجمة عن السياقة في حالة سكر، لكي تعاني من الحوادث الناتجة عن الصيام والعصبية». ويفسر محدثنا أن هذه الحوادث تكون لحسن الحظ بسيطة في أغلب الأحيان، أي تهشم الأضواء، أما أخطر شيء في شهر رمضان فهي الحوادث المأساوية في الأوقات التي تسبق الأذان، انها الأوقات القاتلة التي لا علاقة لها بالعصبية أو الترمضين بل بالسرعة المجنونة لادراك الافطار، خصوصا حين يرى السائق المتهور الطريق فارغا فيزداد اندفاعا الى سرعات انتحارية في سباق ضد الزمن فينتهي هو ومن تقوده الأقدار السيئة الى المستشفى أو القبر لا قدر الله.