يشكل الإرث الفرجوي في كل حضارة من حضارات الإنسانية سندا قويا يغذي ثقافة تلك الأمة، ويساهم في صياغة مخيالها الجمعي، كما يؤسس لما يمكن أن نسميه بالذهنية الشعرية، التي تلتجئ إليها أمة من الأمم لإعادة صياغة هويتها وتجديد حضورها الرمزي والجمالي... ولقد شهدت الممارسة الثقافية في تونس منذ ستينات القرن الماضي محاولات في التعامل مع هذا الإرث الفرجوي سواء تجلى ذلك في المسرح أو غيره من ألوان الفرجة كما يصيغها اليوم بعض الفنانين المشتغلين على هذا التراث... ولعل الجدل الحاصل هذه الأيام بسبب عرض ال«الحضرة» للجزيري يحتم علينا الإلتفات و لو من باب التذكير إلى هذا التراث الفرجوي في الثقافة التونسية منذ تجلياتها في وعي التونسيين في نهاية القرن التاسع عشر... فما هي أهم خصوصيات ومظاهر هذا الإرث الثقافي والفرجوي؟ إعداد: عبد الحليم المسعودي ذهنية التعامل مع الإرث الثقافي والفرجوي في تونس لا يمكن للثقافة الشعبية التونسية التي تتنزل فيها الظاهرة الفرجوية أن تشذ عن الإطار العام الذي تتجلى فيه ملامح الإرث الفرجوي، والذي لامسنا خصائصه في الثقافة العربية الإسلامية قبل ظهور الظاهرة المسرحية في شكلها الغربي. ويكاد يكون هذا الإرث الثقافي الفرجوي في تونس يشكل امتدادا لذلك الإرث الفرجوي الذي لامسناه في بلاد المشرق، وهو على ثرائه لا يكاد يخرج من حالة التهميش التي تحاصرها به الثقافة الرسمية المتواطئة مع طبيعة الحكم الإستبدادي. فهذه المظاهر الفرجوية الشعبية لا تتمتع بأية عناية أو إشراف من دوائر السلطة الحاكمة، ولا تكاد حتى النخب المثقفة تلتفت إليها أو تهتم بها، باعتبارها ليست من مجال اهتماماتها، وإن اهتمت بها فإنها تنسبها إلى البدع وإلى عادات و تقاليد الرعاع والبدو أو الأعراب أو «السفهاء» أو «الأوباش» أو غيرها من الألقاب المحقرة لأهلها ولممارسيها، وهو ما يدل صراحة على تلك القطيعة بين هذه النخب المثقفة القريبة من السلطة و دوائر النفوذ وبين عامة الشعب التونسي في نهاية القرن التاسع عشر. وهذا التحقير لاشك أنه يستبطن تمايزا طبقيا وثقافيا يتم وفق ذلك التقسيم التقليدي في المجتمع التونسي في ذلك القرن الذي يكرس التفرقة بين الحضر والبدو أي بين» البلدية» (سكان تونس عاصمة الإيالة ) وبين العرب أهل القرى والبوادي ومراجع العروش. ويكفي في هذا الإطار أن نعود إلى لهجة صاحب كتاب» الهدية» وهو محمد عثمان الحشايشي الذي ألف كتابه هذا في نهاية القرن التاسع عشر حول العادات والتقاليد التونسية والذي أهداه للكاتب العام لحكومة الحماية برنار رواBernard Roy في شكل تقارير عن البلاد التونسية وعن أهلها. وهي لهجة تؤكد احتقار الحشايشي لأبناء بلاده من العامة ويركز في نفس الوقت على مفاخر ومحاسن البلدية ومساوئ الأعراب و البدو. ومن المفارقات العجيبة أن هذا التراث الفرجوي كمظهر من مظاهر الثقافة الشعبية التونسية، والذي لاقى تهميشا من طرف حراس الثقافة الرسمية، قد أثار انتباه الأوروبي الوافد على البلاد التونسية، وقد تجلى ذلك في كتاباتهم ومذكرات رحلاتهم كل حسب ارتباطاته وخدماته للمشروع الاستعماري. وتخبرنا الدراسات الأنثربولوجية المعاصرة كم كان الاعتناء بالثقافة الشعبية في بلاد المغرب و المشرق يعد طريقا وأداة لفهم عقلية السكان الأصليين لهذه البلدان المستعمرة وتحديدا ما يمكن أن نسميه في التحليل النفسي ب«الشخصية المركزية» للفرد في المغرب العربي بشكل عام. كما أن هذه الثقافة الشعبية و يتصل بها من حياة اجتماعية في بلدان المغرب شكلت المادة الأولية لابتكار هذا الشرق المتخيل عند هؤلاء الكتاب والفنانين والمثقفين و العلماء الأوروبيين. ويكفي أن نلقي نظرة على فن الرسم الأوروبي الاستشراقي (دي لاكروا، إتيان ديني، هنري ماتيس...) حتى نقف على مدى على نجاعة هذا الاستثمار الثقافي في تطوير فنون الغرب و إنعاشه، علاوة على ما لعبه هذا الفن الاستشراقي كوسيط أيديولوجي فعال لتكريس فكرة تفوق الرجل الغربي الأبيض المتحضر و هشاشة الفرد العربي المسلم و الحط من قيمته العرقية و ثقافته البدائية المتعصبة، وهي الفكرة التي تم إحياؤها منذ نشأتها في أدبيات القرون الوسطى و تأسّسها كإيديولوجيا عرقية مع التيار الرومنطيقي المسكون بالأوهام القديمة والمجدي الروماني والقروسطي. محاولة أولية في التصنيف وإذا ما نحن عدنا في هذا السياق المتعلق بالإرث الثقافي الفرجوي في البلاد التونسية، فإنه يمكن الاستعانة بالتصنيف الذي أورده الباحث التونسي الدكتور محمد عزيزة في كتابه الأشكال التقليدية للفرجة»، وهو تصنيف يهفو إلى الشمولية، وقد أورده صاحبه في ثلاثة أصناف كبرى تنتظم من خلالها الأشكال الفرجوية، وهي: صنف أول: متعلق بالاحتفالات التونسية بشكل عام، وهي احتفالات مرتبطة بالمناسبات الدينية وسماها ب«الفرجة – الحفل» كمظاهر من المظاهر الطقسية، ووضع في إطارها: فرجة» أمك طانقو», وهي ظاهرة احتفالية شعبية يستعملها الناس لغرض طلب الاستسقاء، كما أنه يضع في إطار هذا الصنف، ظاهرة» الخرجة» (خرجة سيدي بوسعيد), وما تكتسيه هذه الظاهرة من عناصر فرجوية لا تخلو من المشاركة الجماهيرية الواسعة. صنف ثان: ويسميه محمد عزيزة بالفرجة التطهيرية (spectacle – catharsis)، والذي تمثله ظاهرة السّطنبالي ويركز عزيزة في هذا السياق على الدور الوظيفي لهذه الظاهرة الفرجوية الدينية والشعبية في تبرئة الناس وعلاجهم من الأمراض النفسية، وهذا يقربنا بشكل ما إلى المفهوم العلاجي الحديث عبر الظاهرة المسرحية فيما يعرف بالبسيكودراما (Le psychodrame) كما نظر إليها وطبقها جون لويس مورينو Jean Louis Moreno. صنف ثالث: وهو الأهم من حيث علاقته بالفرجة و يسميه بالفرجة الموضوعية ويراه متجليا في أربعة أصناف كبرى، وهي مجال اللعب القولي، ويضع في هذه الخانة ظاهرة الفداوي أو ما يرادف الحكواتي في بلاد المشرق، كما يضيف إلى ذلك ظاهرة «بوسعدية»، وهو المهرج الجوال ذو الأصول الإفريقية الزنجية، كما يضع أيضا في هذا المجال ظاهرة فرجة الشوارع (le spectacle de rue ) ويستعرض بشكل مقتضب مظاهر هذه الفرجة العامة من عازفي النايات والقصبة الذين يؤدون ما يعرف ب«طرق الصيد»، مما يجمع الناس حول هؤلاء العازفين وحري بالمصنف أن يضع هذا النوع من الفن في المجال الموسيقي وفن» السماع» بشكل عام، ولا يكفي تواجد هذا الضرب من الفن في الشارع حتى يتم اعتباره فنا فرجويا شوارعيا، كما يذكر في هذا الباب أيضا ملعبي القردة ومروضي الثعابين في الأسواق والساحات العمومية كما هو الحال في جامع الفناء بمدينة مراكش، ويحشر المصنف إلى جانب ذلك أيضا صنفا رابعا في خانة ما يسميه بالفرجة الموضوعية وهو الموال الغنائي وهي ظاهرة من ظواهر الغناء أو ما يعرف في تونس وفي بلاد المغرب الأقصى ب«الغناء الملحون «ذي الأصول الأندلسية». ونحن نبدي نفس هذه الملاحظة في إلحاق هذا الضرب من الفن بفن الغناء، لأنه ليس في هذا الفن من عناصر فرجوية حسب رأينا، فالغناء العربي قديمه وحديثه يعتمد الثقافة التقنية الحوارية في الشعر المغنى ولا نرى ذلك كافيا ليكون فنا فرجويا. أما الظاهرة الفرجوية الثانية فتتعلق حسب المصنف بمسرح الكاراكوز، في حين يشير محمد عزيزة أيضا إلى مسرح الدمى المعروفة ب«إسماعيل باشا» كصنف فرجوي ثالث، ويخصص الظاهرة الرابعة للعبة المرأة ذات الشال الأخضر وهي ممارسة إحتفالية يتم ممارستها بين النساء في مناسبات الأعراس، وربما يدخل هذا الصنف في عادات النسوة حين يختلين بأنفسهن ولا يمكن اعتبارها فعلا مظهرا فرجويا، فالنساء حين يختلين بأنفسهن يقومون بارتجال تعابير خاصة لتسجية الوقت كما هو الحال حين يجتمعن في مناسبات اجتماعية أو أشغال منزلية جماعية كعمل الصوف أو إعداد «العولة» أو المؤونة الموسمية. ومهما يكن من أمر فإن التصنيف الذي يعتمده محمد عزيزة في سياق تصنيفه للأشكال التقليدية للفرجة في تونس يعد محاولة ممكنة في الإحاطة بهذا التراث الفرجوي في تونس ربما من زاوية اقتصاره النظر في المظاهر الفرجوية الحضرية، والخاصة هنا فيما يبدو بتونس الحاضرة، غير أنه يسقط من حساباته مظاهر فرجوية أخرى في مناطق الأرياف ومرابع البدو، وهي مظاهر لم تعنى حسب رأينا العناية اللازمة من الاكتشاف والتحليل والدرس. غير أن هذا التصنيف يساعدنا على إلقاء الضوء على ما يمكن أن يكون عليه الميراث الفرجوي في القرن التاسع عشر خاصة تلك المظاهر الفرجوية القريبة التي تتوفر فيها العناصر الفرجوية مما يقربها من الظاهرة المسرحية، وسنعتمد في ذلك على المصدر القريب من هذه الفترة في القرن التسع عشر، وهو كتاب «الهدية، أو الفوائد العلمية في العادات التونسية» الذي سبق وأن أشرنا إليه, لمؤلفه محمد بن عثمان الحشايشي (1853 1912)، ويهمّنا في هذا المصدر لهجته التحقيرية تجاه هذه المظاهر الفرجوية مما يؤكد حالة التهميش التي يعيشها هذا الموروث من طرف النخب ونطاق الثقافة التونسية الرسمية في العهد الحسيني وبداية الإستعمار الفرنسي. وفي هذا السياق التصنيفي الذي نحاول تقديمه، فإننا نقترح تصنيفا آخر يقوم على ثلاثة تصنيفات أو تقسيمات رئيسية: المظاهر الفرجوية الشعبية والعفوية وهي مظاهر كثيرة تنقسم في مجملها إلى قسمين: الظواهر الاحتفالية الدينية، ويدخل في نطاقها، احتفالات الفرق الصوفية ومواسم الأولياء الصالحين، بعبارة أخرى الإحتفالات الطرقية، وتعتبر هذه الإحتفالات مظهرا من المظاهر الفرجوية الهامة باعتبارها تقوم على مبدإ «الظهورية» (exhibitionnisme) وكذلك على لحظات من المحاكاة في لحظات النشوة و«التخمر» الجماعي خاصة في العروض العيساوية حين يقلد بعض المشاركين المنجذبين في هذه الإحتفالات الحيوانات المتوحشة كالأسد والذئب. كما يمكن أن نذكر في هذا الإطار الخرجات الخاصة بالأولياء وحلقات الذكر والرقص الإنجذابي المرافقة لذلك. ويشير محمد بن عثمان الحشايشي في هذا الإطار فيورد: «...منها الإحتفالات المسماة بالخرجات، والخرجة عبارة عن طائفة من إخوان إحدى المشايخ كالعيساوية مثلا، فإنك تراهم في كل عام آخر المصيف يخرجون لزيارة الشيخ سيدي أبي سعيد الباجي في موكب عظيم. ناشرين مئات من الأعلام المذهبة والتي هي من الحرير ولابسين الملابس البهيجة، وهم على شبه صفوف عسكرية... وبيد كل واحد منهم حربة من الحديد... وجميع أفعالهم ليس مما جاء بها الشّرع العزيز، بل هي من البدع». ويمكن أن نستنتج من خلال هذا النوع من الإحتفالات، كما هو حال الخرجة أو ما يماثلها من الاحتفال بالأولياء الصالحين وهي «الزّردة» في الأرياف والتي تلعب دور الوظيفة الإجتماعية في تثمين العلاقات بين أفراد الناس حضريا وقبليا. أما القسم الثاني الذي ينضاف إلى صنف المظاهر الفرجوية الشعبية العفوية فهي تلك الظواهر المتوافرة في الأسواق و تتمثل في تلك العروض الفردية و الجماعية و يعمل أصحابها على التكسب من خلالها، وتتمثل في تلك الألعاب البهلوانية وألعاب الخفة، أو ما يسميه البعض بالشعوذة أو «الشعبذة»، ويذكرهم الحشايشي فيقول: «وهم طائفة من أهل العرب، خفاف الأجسام، يمشون على أكفهم و أرجلهم إلى السماء، ويصعدون فوق بعضهم بعضا، ويرقصون و لهم أساليب عجيبة في هذا اللعب، يلعبون بالشوارع العامة المتسعة». ولعل هذه الظواهر لو تطورت لكانت في الأصل نواتا لفن السرك أو مسرح الأسواق المعروف في المدن و القرى الأوروبية. كما يضاف إلى هذه الفئة من هم يلاعبون الأفاعي والثعابين، يأتون بأعاجيب الكلام والأداء الموسيقي، وسرد الخرافات على ألسنة الزواحف، وهي ظاهرة كما أشرنا منتشرة في بلاد المغرب (الأقصى) وحاضرة في الأسواق التونسية، ويذكرهم الحشايشي فيقول عنهم: « فمن ذلك أولاد سيدي بن عيسى، يجلسون على قارعة الطريق ويتجاذبون، وشعورهم على أكتافهم، وهم يلعبون بذوات السّموم التي ألفوها و ألفتهم، فتتجمع عليهم الخلائق للتفرج، ويعطونهم شيئا من الدراهم و هم من الغرابة». كما يمكن أن نذكر أيضا ظاهرة الاستجداء في الأسواق المتحذلق، وهي ظاهرة جديرة بالدرس، لما تتوفر عند ممارسيها من سرعة في الارتجال في القول و عادة ما يكون القول عندهم مديحا على درجة كبيرة من المبالغة، وأحيانا من السخرية اللاذعة للأشخاص الذين يمتنعون على إعطاء هؤلاء مقابلا ماديا عادة ما يكون بعض دريهمات، وهؤلاء هم باعة الكلام أو القوالون عادة ما يستعملون في ذلك آلات موسيقية بسيطة وترية ( كآلة القمبري) أو إيقاعية ( كالبندير)، ويذكرهم الحشايشي في لهجة تحقيرية، وهم المعرفون ب«المداحة»، فيقول: «وهم طائفة من أهل العرب أيضا بيدهم آلة تشبه العود الصغير يسمونه القمبري، يقفون في الشوارع، تطوف بهم السفلة من رعاع الناس فيذكرون غزوات الصحابة، كلها إفتراء، بجهلهم بعلم السير، ويعطونهم جانبا من الدراهم» . ثانيها: المظاهر الفرجوية الشعبية العليمة: إننا نؤكد في هذا الصدد على الصفة الفرجوية العليمة، تمايزا عن المظاهر الفرجوية العفوية التي تدخل إما في باب الطقس الديني أو الحاجة الشعبية للتعبير الظهوري، وهي عليمة لأنها تخضع إلى معرفة مسبقة وطريقة في الأداء المضبوط، علاوة على قربها من الظاهرة الدرامية والمسرحية، ونميل أن نحصر هذه الظواهر الفرجوية في ثلاثة أشكال رئيسية هي: ظاهرة «الفداوي»، وظاهرة» الكاراكوز»، وظاهرة «إسماعيل باشا» . وهو ما سنعود لتفصيله في الجزء الثاني من هذا الملف في العدد القادم.