شاهدت منذ أيام حصة خصصتها القناة السورية للرحباني، جمع الحضور أفراد من عائلة الرحباني، وأصدقاء من عائلتهم الكبيرة في الشام، العائلة الشامية التي عرفتني على الرحابنة وفيروز منذ أكثر من ثلاثين سنة. كان هناك رجاء شربجي الذي يناديه الأخوة الثلاثة صديق العمر، ودريد لحام، وتحدث الياس الرحباني مؤكداً أنه لم يوجد يوماً شعب يحب عائلة وعائلة تحب شعباً مثل الشام والعائلة الرحبانية، غنوا ست وعشرين أغنية عن الشام، 12 من كلماتهم، قدمت اذاعة دمشق سنة 52 أول البرامج الصباحية بصوت فيروز «صباح الخير يا صباح» وزرعت طقوس الاستماع لصوت سيدة الصباح عبر كل الوطن العربي. كان «أحمد عسة» مدير الاذاعة السورية آنذاك أول من آمن بطاقات الرحباني ووضع كل امكانات الاذاعة تحت تصرفهم، وفي مذكرات منصور كتب أن كان لهذا الرجل فضل كبير عليهم لأن اذاعة دمشق في ذلك العهد كانت قوية البث، وكل ما يذاع منها يعرف ويشيع. رحل عاصي ورحل منصور، وبقي نص عاصي وبقي نص منصور، كانا حالة راقية وفريدة، انتقلا من اسم لأخوين، ليصبحا ظاهرة مميزة رسخت جذعها الطالع من جذور الأصيل، موشحة بقالب أنيق أخذ من العصر الحس والذوق، ومن الفن نظرة الى الانسان غير محدودة، بدآ النجمان يسطعان بنور مغاير على الفن العربي، وكأنهما جاءا عكس التيار، والى اليوم صعب الكلام عن الفن في العالم العربي دون التوقف عند العائلة الرحبانية، التي بدأت مع عاصي ومنصور، ولم يخف وهج الرحباني بل هو يزداد يوماً بعد يوم، فقد استقبلت دمشق عاصمة ثقافية السنة الماضية فيروز وزياد استقبالاً أسطورياً جعل زياد الصعب المراس يضاعف الحفلات التي كانت مقررة، وفيروز التي عرفتها عاشقة للشام تصعد على المسرح والدموع تغمر وجهها،وافتتحت احتفاليات دمشق بمسرحية «صح النوم» التي قدمتها قبل ذلك سنة 68 على مسرح معرض دمشق الدولي. فمنذ انطلاق حفلات معرض دمشق الدولي في دورته الأولى سنة 55 كانت فيروز الوردة الفواحة للمعرض، قدمت مجموعة من الموشحات والأغنيات الأخرى بمرافقة الفرقة الشعبية اللبنانية. بدأت بموشحي «جادك الغيث» و «لما بدا يتثنى»، ثم غنت مجموعة من ألحان الرحابنة مثل «يا قمر أنا وياك» و «ما في حدا». وكانت مشاركاتها حتى عام 1961 بحفلات متنوعة. بعدها بدأت بتقديم المسرحيات مع الرحابنة. والمسرحيات التي قدمتها على مسرح المعرض حسب تسلسلها الزمني هي: «جسر القمر» عام 1962 و«الليل والقنديل» عام 1963 و«بياع الخواتم» 1964 و«هالة والملك» 1967، و«الشخص» 1968 و«صح النوم» 1971 و«ناطورة المفاتيح» 1972 و«لولو» 1974 و«ميس الريم» 1975، و«بترا» 1977. هذا الحب الكبير الذي أعطته دمشق لفيروز، قابلته الأخيرة بحب أكبر من خلال مجموعة من الأغنيات غنّت بها دمشق حيث شدت أجمل الأغاني عن دمشق حتى أصبحت تلك الألحان شعاراً لمناسبات وطنية، قام الرحباني بثورة فنية وثورة وطنية، أصبحت أغنيتهم «قوي قلبك وهجوم، يا بتصل عالموت يا بتصل عالحرية» شعاراً يستنهضوا به العزائم. وحدثني منصور أن أغنية «سائليني» عجلت بانفصال الوحدة بين سوريا ومصر، ففي افتتاح مهرجان دمشق، غنت فيروز «سائليني يا شآم حين عطرت السلام، كيف غار الورد واعتل الخزام، وأنا لو رحت أسترضي الشذا لانثنى لبنان عطراً يا شآم، وحين وصلت فيروز الى مقطع: أمويون فان ضقت بهم ألحقوا الدنيا ببستان هشام»، وكانت الوحدة قد خيبت آمال السوريين، الذين شعروا أن هناك تهميشا لسوريا على الخريطة الوحدوية. هبت عاصفة غير عادية من التصفيق، وهمس فيلمون وهبي في الكواليس لمنصور: رح يصير شي بهالبلد، وصار بعد أسبوع الانفصال». درجت العادة أن يقدم الرحباني في مطلع كل برنامج لمعرض دمشق تحية الى دمشق، فبعد «سائليني» قدموا «شآم يا ذا السيف لم يغب» و«طالت النوى و بكى من شوقه الوتر خذني بعينيك و أهرب أيها القمر» وأرسلنا المراسيل «لنزار قباني» وكتب الرحباني «حملت بيروت في صوتي وفي نغمي وحملتني دمشق السيف في القلم»، و«جسر القمر»، و«دواليب الهوا» و«أيام فخر الدين» و«جبال الصوان» و«ناطورة المفاتيح» و« قصيدة حب». لم يغن الرحباني أبداً لأشخاص، غنوا دائماً للوطن، عالم من الجمال والوطنية والسياسة، كونوا مكتبة كاملة من الألحان للقضية الفلسطينية، مائة أغنية عن فلسطين، أطفالاً كنا نبكي عند استماعنا لأغنية «سنرجع يوماً الى حينا». هل كنا نبكي فلسطين؟ هل كنا نبكي لأننا نشعر بالغربة؟ غربة القلب، غربة الوطن الذي نحن فيه؟ وكأننا كنا ندري. وقد حاول الرئيس ياسر عرفات منحهم وساماً فرفضوا، وسألهم أبو اياد فأصروا على الرفض قائلين: نرفض أن نكافأ على ما كتبنا لفلسطين، كتبنا احساسنا وضميرنا. «غاب نهار آخر... غربتنا زادت نهار، واقتربت عودتنا نهار، أنا وظل الحور في الخريف، ويبعد الرصيف يمعن في الفراغ وفي الغبار، ودعني طير وقال: الى بلادي أمضي، ذكرني بأرضي، وكبر السؤال... غاب نهار آخر».