لم يأت مسرح الرحابنة عفو الخاطر، بل نتيجة ارهاص كبير اختزل كل من ساهم في بناء المسرح الغنائي بدءا من مارون نقاش عام 1848 مرورا بسليمان قرداحي ويوسف خياط وأبي خليل القباني واسكندر فرح وسلامة حجازي وانتهاء بسيد درويش وزكرياء احمد، وهو حين استقطب الناس اليه من مثقفين وغيرهم، ليس لأنه كان نقلة ابداعية من فن واحد الى جملة من الفنون، جمعت ما بين الادب والتمثيل والغناء والرقص والموسيقى والديكور والاخراج، بل لأنه أراد أن يقدم للناس مسرحا نظيفا هادفا، ينقل همومهم ويدافع عن الحرية المسلوبة والقيم الانسانية المهدورة. هذا ما اشار اليه الاستاذ صميم الشريف في مقدمته لكتاب «فيروز والفن الرحباني» الذي صدر مؤخرا عن دار كنعان بدمشق من تأليف الزميل محمد منصور، والكتاب كما هو واضح من عنوانه يتناول مفاصل رئيسية من تجربة عمالقة الفن العربي: الأخوين رحباني السيدة فيروز، وهو يضم بين دفتيه بابين، الاول بعنوان «صور وملامح من المسرح الرحباني» والثاني «ذاكرة المكان في الاغنية الرحبانية» اضافة الى ملحق خاص ببعض قصائد الاغاني وسيناريو الفيلم الوثائقي «بعدك على بالي» الذي أعده المؤلف للتلفزيون السوري بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل عاصي الرحباني. في الباب الاول تناول الكاتب المضمون الفكري في تجربة الرحابنة الفنية، وتوقف عند قيم التغيير وصورة الدكتاتور وفلسفة الحلم كما رسمها المسرح الغنائي الذي أبدعوه، بدءا من أول عروضهم وحتى آخرها «بترا»، وقد افتتح مقاله مبررا دوافع عمله وأهميته بقوله : «في غفلة من فن رديء يحاصرنا... كان علي ان أعود الى الفن الرحباني، لأبحث عن فسحة أستطل فيها... فن لا أدعي أني أكتشفه أو أنتشله من سلة النسيان، فهو حاضر معنا رغم كل الزبد الذي يذهب هباء بالصوت والكلمة واللحن لكن يحق لي أن أزعم أني أحاول قراءة معانيه برؤى جديدة ومنطق احتفالي جديد. من قيم التغيير والحرية التي عالجها مسرح الرحابنة بدأت أول فصول الكتاب، وفي معرض بحثه ذكر ان مسرح الرحابنة قد حفل بشخصيات مثالية تبحث عن النقاء وتؤمن بالمثل العليا سلوكا وممارسة، لكن ذلك لم ينفصل بأي حال من الأحوال عن رؤية الجوانب السلبية في مجتمع ليس هو مدينة فاضلة بالتأكيد، بل مجتمع حافل بالتجاوزات ومظاهر الفساد السياسي والاخلاقي التي شخصها الرحابنة بكثير من الدقة والشفافية، وأشار أنهم في عملهم المبكر «الليل والقنديل» تحدثوا عن الصراع بين الظلام والنور، وفي «بياع الخواتم» الذي دخلوا به عالم السينما عام 1965 بعد ان قدموه كعمل مسرحي، ثمة نقد سياسي عميق لكل الانظمة التي تبرر وجودها وامتيازاتها باختراع عدو خارجي، وفي مسرحية «جبال الصوان» أكد الرحابنة على معنى مقاومة الطغيان من الداخل، وفي مسرحية «الشخص» بلغ النقد السياسي أوجه في كشف مظاهر الفساد وانتهاك حقوق الفقراء، وفي عملهم «يعيش... يعيش» الذي قدم مطلع سبعينات القرن العشرين كشف ألاعيب الانقلابات السياسية في الوطن العربي، وفي كل هذه الاعمال ألح الرحابنة على فكرة الحرية وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وقدموا أشكالا مختلفة لصورة الدكتاتور، دون الاتكاء على خطاب سياسي شعاراتي تحريضي، فقد آثاروا منذ البداية ان تكون دعوتهم للتغيير، دعوة نابعة من الجوهر والاحساس الحقيقي بالانتماء للوطن، لا من الشعار الذي يتاجر به بعضهم باسم الوطن. بعد ان تناول قضايا التغيير والحرية انتقل الكاتب الى فلسفة الحلم في مسرح الرحابنة، وأشار الى انه منذ مسرحية «هالة والملك» الى «يعيش.. يعيش» وصولا الى «المحطة» انتهاء ب»بترا» تتجدد فكرة الحلم وتتعدد صياغاته الشعرية مثلما تتبدل الاسقاطات الواقعية، حتى ليبدو الحلم في العديد من أعمال الرحابنة، شخصية درامية يتكرر حضورها بأشكال وصور مختلفة.. ويحضر الحلم الجماعي جنبا لجنب مع الحلم الفردي، وهو يحضر ليحقق نوعا من التعويض النفسي وأحيانا المادي لشخصيات بسيطة ومقهورة وهاشمية، وفي هذا الخصوص أكد الباحث أن مسرحية «المحطة» عام 1973 كانت من أكثر مسرحيات الرحابنة ايغالا في الحلم، وغوصا في فلسفته سواء في الفكرة العامة أو عبر خطوطها الفرعية وبنية الحدث. الباب الثاني من الكتاب ضم ثلاثة فصول، خصصها المؤلف لرصد تجليات المكان في الأغنية الرحبانية، متناولا جماليات الضيعة اللبنانية ودمشق والقدس ومن خلالها القضية الفلسطينية، وقد أشار بخصوص الفصل الاول الى انه ليس من الغريب ان تحتل الضيعة بجمالياتها وطقوسها وأحلامها جزءا من ذاكرة المكان في الأغنية الرحبانية، فقد نشأ الاخوان رحباني في ضيعة جميلة اسمها انطلياس، لكنهما لم يكتفيا بإعادة تقديم ألوان الغناء الريفي كالعتابا والميجانا وأبي الزلف بإيقاع جديد، بل صاغوا عالم الضيعة اللبناني المتكامل والمتفرد بنماذجه وشخوصه وطبائع وأحلام ناسه، فبدا هذا العالم وكأنه يبعث فنيا للمرة الاولى حاملا معه الدهشة والبراءة والعفوية والسحر، كذلك أشار الكاتب الى ان الضيعة في المسرح الرحباني، كانت هي مكان الحدث الأساسي في عدد كبير من الاعمال المسرحية والبرامج الموسيقية بل إن أول حفل فني دخل فيه الرحابنة مهرجانات الأرز عام 1957 كان «مواسم الحصاد» وفيه استلهام لفلكلور الضيعة، واعادة انتاج لكثير من صوره من قبيل موسم القطاف وعصير العنب. أرجع المؤلف علاقة الرحابنة بدمشق الى عام 1952 وبداية التعاون مع الاذاعة السورية والى معرض دمشق الدولي الذي شكل موعودا سنويا لهم مع الجمهور السوري، وذكر ان أول أغنية غنتها فيروز لدمشق هي قصيدة «بردى» للشاعر اللبناني بشارة الخوري الاخطل الصغير عام 1957 احتفالا بذكرى الجلاء، وأشار الى ان قصائد الشاعر سعيد عقل قد مثلت ركنا أساسيا من أركان العلاقة بين دمشق والرحابنة، فمن أصل ست عشرة أغنية قدمتها فيروز لدمشق، نجد ان سعيد عقل قد انفرد بسبع قصائد هي : سائليني يا شآم، بالغار كللت، مر بي، أحب دمشق، قرأت مجدك، شام يا ذا السيف، نسمت، وفي السياق ذكر المؤلف أن الرحابنة قاموا أيضا بإعادة تقديم الفلكلور السوري مثل «يا مال الشام» واستلهامه في العديد من الاغنيات. أما حول علاقة الرحابنة بالقضية الفلسطينية فقد نوه الفصل الثالث الى انها تعود الى سنوات قليلة على بداية تعاونهما الفني، كانت أولى الاعمال «راجعون» التي سجلت في صوت العرب بالقاهرة عام 1955، بعدها قدموا احدى عشرة عملا عن القضية الفلسطينية والقدس، عبروا فيها عن مفردات شتى واختزلوا فيها صورا ووقائع وأحداثا بطريقة مجددة أهمها التشرد واللجوء وحلم العودة... * تهامة الجندي * عن «بيان الكتب» الاماراتية * الكتاب : فيروز والفن الرحباني الحلم المتمرد والفردوس المفقود * تأليف : محمد منصور * الناشر : دار كنعان دمشق 2003