من لا يعرف قريش لا يعرف البطش والجبروت. قريش هي أم الشرك والكفر والطغيان والكبرياء، فهل تنام على هزيمتها يوم بدر؟ يوم ذبح القادة والأشراف! ان فعلت ذلك ضاعت هيبتها وفقدت زعامتها واضمحلّ سلطانها بين القبائل ولابدّ من الثأر. بيّتت قريش حقدها وجمعت جموعها وزحفت نحو «يثرب» واشتعل القتال بينها وبين المسلمين. وحمي وطيس «أُحد» وفعلها رماة المسلمين... واستشهد حمزة ومصعب و.... وشاع الخبر بين الناس ان محمدا قد قُتل. وهبّت رياح النصر على قريش وانتفخ المشركون غرورا بثأرهم وصعد أبو سفيان بن حرب الجبل ونادى يفاخر: ... يوم بيوم والحرب سجال... أعلوا هبل... أعلوا هبلْ.. وفنّد صفوان بن أمية هذا النصر وأخبر أصحابه المشركين بأن محمدا حي وها هو بين صاحبيه ابن أبي قحافة وابن الخطاب!.. ودار بينهم الجدال... وعاد المسلمون الى المدينة «يثرب» وقد خيّم عليها جوّ الحزن الثقيل. وبدأ الأعداء يتلمّسون الفرص للإيقاع بأصحاب محمد والقضاء عليهم. وقد فشى في المدينة النفاق وكثر..! وفي تلك الأثناء أقبل على النبي صلى الله عليه وسلّم رهط من القبائل يعرضون اسلامهم. وقالوا: يا رسول الله إبعث معنا من يفقّهنا في الدين ويعلّمنا القرآن. فاختار صلى الله عليه وسلّم ستة من أصحابه نذكر منهم: عاصم بن ثابت وزيد بن الدثنة وخُبيب بن عدي وعبد الله بن طارق ومرثد بن ابي مرثد، وخرجوا رضي الله عنهم مع القوم ولما وصلوا منطقة «ماء الرجيع» انقلبوا عليهم وغدروا بهم ونادوا عليهم قبيلة هذيل وأحاطت بهم السيوف من كل جانب، وقالوا لهم لا نريد قتلكم ولكم عهد الله وميثاقه ان لا نقتلكم. قالوا ذلك لانهم يريدون بيعهم الى قريش لتقتص منهم لقتلاها في بدر. وكان أمير السرية عاصم بن ثابت فأبى هو وإثنان من أصحابه وقال: والله لا أنزل في ذمّة مشرك وقاتل مع صاحبيه حتى قتلوا رضي الله عنهم. ووقع زيد وخبيب وعبد الله في الأسر ولما كانوا «بمر الظهران» قال عبد الله بن طارق والله لا أصاحبهم إن لي بهؤلاء إسوة. يعني اصحابه الذين قُتلوا ونزع يديه من رباطه وجعل يشتدّ فيهم فرموه بالحجارة فقتلوه فقبره «بالظهران» رضي الله عنه. وانطلقوا بزيد وخُبيب حتى أتوا بهما أسواق مكة. عُرض خبيب فامتدت الأيدي والأصابع تشير الى قاتل الحارث بن عامر يوم بدر. فاشتراه أبناء الحارث وعُرض زيد فإذا هو كذلك بدري فيه شفاء للغليل. فارتمى عليه صفوان بن أمية بن خلف الذي قُتل أبوه في بدر واشتراه . كان ذلك في شهر ذي القعدة على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة النبوية الشريفة. والعرب تقدّس الأشهر الحرم فلا تباشر فيها قتالا ولا تسفك فيها دما. فحبس صفوان زيدا وحبس أبناء الحارث خبيبا وقد حدثت أمور من خبيب حدّثت بها «مارية» قالت كان خبيب يتهجّد القرآن فإذا سمعه النساء يبكين له ويشفقن عليه فقلت له يوما: هل لك حاجة؟ فقال: لا إلا ان تسقيني العذب ولا تطعميني ما ذُبح على النصب. وتخبريني اذا أرادوا قتلي. فلما أرادوا قتله أخبرته فوالله ما أكثرتُ بذلك. ووالله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب. والله لقد وجدته يأكل قطفا من عنب مثل رأس الرجل. وإنه لموثق بالحديد. وما بمكة من ثمرة عنب!ثم دنت ساعة المحنة وخرجتْ قريش برجالها ونسائها وصبيانها في مهرجان من الحقد والكراهية والثأر تتعالى أصواتهم بالتشفي والانتقام من أصحاب محمد. وفي خاصية من ضواحي مكة تسمى: التنعير قُدّم زيد رضي الله عنه للقتل. فتقدّم اليه أبو سفيان بن حرب زعيم مكة يمتحن صلابته وإيمانه وقد أعجبه منه تماسكه ورباطة جأشه وقد ظن ذلك منه تصنّعا وافتعالا فقال له: «نشدتك الله يا زيد أتحبّ ان محمدا عندنا الآن مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟» فردّ عليه زيد رضي الله عنه: «والله ما أحبّ أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي». فضرب أبو سفيان كفّا بكفّ وقال: «ما رأيت من الناس أحدا يحبّ أحدا كحب اصحاب محمد محمدا» روى لنا ذلك معاوية بن أبي سفيان فقد كان حاضرا مع أبيه وقد سمع الحوار فحفظه وحدّث به. ثم أمر بزيد فأنقضّ عليه رجل من المشركين يدعى نسطاس فطعنه برمحه فذهب رضي الله عنه شهيد الحبّ والإيمان والوفاء... وجيء بخبيب رضي الله عنه فقال لهم أتركوني أصلّي فصلى ركعتين وقام اليهم فقال: لولا ان تروا ان ما بي جزع من الموت لزدتُ. ثم دعا عليهم فقال: اللهم أحصهم عددا. واقتلهم بددا. ولا تغادر منهم أحدا. فلبد القوم بالأرض خوفا من دعوته. حدّث بذلك معاوية بن أبي سفيان ايضا رضي الله عنه ثم رفعوه على خشبة مصلوبا فقال: اللهم إني لا أجد من يبلّغ رسولك مني السلام فبلّغه انت، فحملها جبريل فقال صلى الله عليه وسلّم: وعليك السلام يا خبيب قتلته قريش. ثم اجتمع حوله المشركون بأيديهم الرماح فتحرّك على الخشبة فانقلب وجهه الى الكعبة فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته وأنشد رضي الله عنه أبياتا فقال: لقد جُمع الأحزاب حولي وألّبوا وكلهم مبدي العداوة جاهد وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم الى الله أشكو غربتي بعد كربتي وذلك في ذات الإله وإن يشأ وقد خيّروا في الكفر والموت دونه وما بي حذار الموت إني لميّت ووالله ما أخشى إذا متّ مسلما فلست بمبدي للعدوّ تخشّعا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع عليّ لأني في وثاق مضيّع وقرّبت من جذع طويل ممنّع وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي يبارك على أوصال شلْو ممزّع وقد هملتْ عيناي من غير مجزع ولكن حذار حجم نار مُسفّع على أي جنب كان في الله مصْرعي ولا جزعا إني الى الله مصرعي فلمّا أتمّ قام إليه أبو سرعة أحد أبناء الحارث بن عامر فقتله رضي الله عنه وقد أقام القرشيون حرسا على جثته لتستمرّ فوق الخشبة طعاما للطيور والهوام امعانا في التشفي. لكن الرسول صلى الله عليه وسلّم أرسل نفرا من اصحابه منهم الزبير ابن العوّام والمقداد بن عمرو وعمرو بن أمية الضمري ليستخلصوا الجثة فأتوه فإذا هو رطب لم يتغيّر فاستنقذوه من أيدي القوم وعادوا به فطار الخبر فلحق سبعون من المشركين فألقوه الصحابة حتى لا تثقل حركتهم ويدركهم الأعداء فتضيع الجثة ويضيعون فاحتوته الارض وغيّبته مثلا كريما في الأوّلين والآخرين. وتلك هي سرية: «ماء الرجيع» بزيدها الخزرجي وخبيبها الأوسي من الأنصار الذين آووا الرسول ونصروه وأحبّوه حبّا جمّا فأحبّهم الله وأثنى عليهم في قرآن يتلى الى يوم يبعثون.