الدكتور محمد البدوي أحد المتابعين بمثابرة وجدية للمشهد الأدبي في تونس منذ أكثر من ربع قرن الى جانب اهتمامه بأدب الطفل، وقد عرف الدكتور محمد البدوي بطيبته وعلاقاته المتميزة مع كل الفاعلين في المشهد الأدبي ورغم تولّيه لمسؤولية في الهيئة المديرة للاتحاد لم يتورّط في صراعات مع الكتاب وهو من بين العناصر التي تحظى بثقة وإجماع الكتاب. «الشروق» التقته في هذا الحوار: ٭ حوار نور الدين بالطيب ما هي الدوافع التي قادتك لاختيار «أدب الطفل في تونس» كموضوع لأطروحة الدكتوراه؟ يعود اختيار «أدب الأطفال في تونس» موضوعا لرسالة الدكتوراه الى رغبتي في البحث عن سبل بكر لم تسلكها الأقدام ولا الأقلام، واستكشاف مجالات لم يسبق إليها البحث الأكاديمي، فتجنبت المواضيع التقليدية، وكنت في شهادة الكفاءة في البحث قد درست شاعرا ليبيا غير معروف في تونس هو الشاعر علي الفزاني، ورغم عديد المشاكل التي يطرحها أدب الأطفال سواء ما تعلّق منها بالمدونة أو بالمنهج إضافة الى غياب دراسات أكاديمية في المجال فقد كان حرصي على دخول المغامرة وفتح طريق أمام غيري من الباحثين كبيرا ويسعدني أني وفّرت الآن أرضية مناسبة لمن يريد أن يساهم في البحث في أدب الأطفال في تونس والعالم العربي، لما لهذا النمط من الكتابة من دور في تنشئة أبنائنا، وأرجو أن يتكوّن مركز لدراسة أدب الطفل يكون راعيا لهذا النمط من الكتابة ويوفر متابعة نقدية دائمة. حوالي العشرين عاما مضت على برنامجك «واحة المبدعين» كيف تحدّد ملامح هذه التجربة؟ عشرون سنة مرّت على أول حصة من «واحة المبدعين» في إذاعة المنستير، وهي امتداد طبيعي لما كان يقوم به الشاعر الخالد مصطفى خريف في «هواة الأدب» وتواصل مع آخرين من بينهم أستاذنا منجي الشملي بالإذاعة الوطنية والشاعر الهادي نعمان بإذاعة المنستير. وميزة واحة الابداع أنها تذهب الى الأدباء الشبان في مواقعهم في المبيتات الجامعية ونوادي الاختصاص والملتقيات الأدبية وتكتشف المواهب وتفتح المصدح لهم لقراءة نصوصهم الجيدة والتعبير عن طموحاتهم. وسعينا الى نقد هذه النصوص ودعونا الى تطوير التجارب وتعميقها. ويسعدني أن عددا كبيرا ممّن هم الآن بارزين في الساحة الأدبية مرّوا بواحة المبدعين واحتفلت بهم وبنصوصهم ووثقوا فيها، ووصل إشعاع الواحة الى طرابلس ووصلتنا رسائل عديدة من عدد كثير من المبدعين أذكر منهم شاعر الشباب الراحل علي صدقي عبد القادر. كما وصلتنا رسائل عديدة من شرقي الجزائر مما يدل على إشعاع الواحة وقدرتها على استقطاب عديد الأسماء ونشر الإبداع الشبابي التونسي في الآفاق. وقد توقفت واحة المبدعين في سنوات سابقة بقرار جائر من المدير السابق للإذاعة، ولا بدّ من تجديد الشكر والتقدير للإدارة الحالية لإذاعة المنستير على إيمانها بالعمل الثقافي وثقتها وسعيها الى إعادة ماء الحياة الى واحة المبدعين التي تستقطب الآن عديد الأسماء الشابة في سنة نحتفل فيها بالشباب ونريده أن يبقى احتفالا دائما لأن حياة الدول تقوم أساسا على شبانها، رجال المستقبل القريب. وأرجو أن تسعى الواحة في قادم الأيام الى العمل على نشر أبرز أعمال المبدعين الشبان من خلال العمل على تحقيق مكتبة صوتية تحفظ نصوصنا من النسيان، لأنها جزء من الذاكرة الوطنية. أنت من أبرز الجامعيين الذين اهتموا بالأدب التونسي في الجامعة التونسية كيف ترى العلاقة بين المبدعين والجامعيين؟ عدد الجامعيين الذين يهتمون بالأدب التونسي محدود، ويمكن أن «أذكر من بينهم الدكتور محمد صالح بن عمر ومصطفى الكيلاني وخالد الغريبي ومحسن السقا، وإذا كان بعضهم معروفا في الساحة الثقافية فإن البعض الآخر يعمل في صمت ويحتاج الى نشر بحوثه. ولا بدّ أن أذكّر بعشرات البحوث التي تمّ إنجازها في مستوى الأستاذية والماجستير والدكتوراه، وأغلب هذه الأعمال غير معروفة لأن أصحابها في بداية الطريق وليست لهم إمكانية النشر وشخصيا أدعوهم الى نشر أعمالهم على شبكة الأنترنيت، وشخصيا أشرفت على أكثر من عشرين بحثا كلها تتعلق بالأدب التونسي الحديث (زبيدة بشير، الحبيب السالمي، عز الدين المدني، المولدي فروج، الهادي نعمان، جميلة الماجري الشاذلي زوكار، محمد عمار شعابنية، محجوب العياري.. إلخ) وأرجو أن ينشر أصحاب هذه البحوث أعمالهم. إن الجامعة ليست في معزل عن الساحة الأدبية والثقافية، وبعض الشعراء والأدباء يتعجّلون الحضور في مستوى هذه البحوث، ويتّسم الجامعيون بالرصانة ولا يقبلون إلا على دراسة من رسخت أقدامهم في مجال الكتابة، دون الاهتمام بالأعمال الأولى. عدد كبير من الجامعيين لا علاقة لهم بالأدب التونسي لأنهم يقومون بتدريس اللغة أو القضايا الحضارية، وثلث الأساتذة فقط يهتمون بالأدب وطبيعي أن يكون عددهم قليلا لا يمكن أن ينصف الانتاج الأدبي الغزير، إضافة الى تقلّص عدد الطلبة الموجّهين الى قسم اللغة والآداب العربية وضعف مستوى الكثير من هؤلاء الطلبة الذين يتمّ توجيههم عنوة دون رغبة منهم، فلا تنتظر من مثل هؤلاء أن يهتمّوا بدراسة الأدب التونسي. أرجو أن تتعدّد فرق البحث في مختلف الجامعات، ويختص بعضها في دراسة الأدب التونسي وتضمّ الجامعيين العاملين والمتقاعدين وتعمل على ضبط برامج دقيقة لإنجاز أعمال جماعية تضاف الى المجهودات الفردية. كما أرجو أن يسعى القائمون على شؤون الجامعة على نشر أكثر ما يمكن من البحوث والرسائل الجامعية المتعلقة بالأدب التونسي تعميما للفائدة وخدمة لثقافتنا الوطنية حتى لا تنام هذه الدراسات في الرفوف زمنا طويلا. تتولى منصبا هاما في الهيئة المديرة لاتحاد الكتاب كيف تقيّم عمل هيئتكم؟ يشرّفني أن أكون عضوا في الهيئة الحالية لاتحاد الكتاب التونسيين، وهي هيئة منتخبة انتخابا ديمقراطيا لا غبار عليه، وهي متماسكة في مواقفها وعملها سعيها يقوم أساسا على خدمة الأدب التونسي والدفاع عن الكاتب التونسي.. وهذه المسؤولية بقدر ما تبدو بسيطة فهي محفوفة بكثير من العراقيل التي يسوؤها انسجام الهيئة وعملها المتواصل بإمكانية مادية أقلّ من القليل ولم تتطوّر. ولولا دعم سيادة الرئيس زين العابدين بن علي المعنوي والمادي لأغلق اتحاد الكتاب أبوابه، فقد ورثنا من الهيئة السابقة ديونا ثقيلة، وممارسات لبعض الكتاب لا تشرّف الساحة الثقافية التي نريدها نبيلة ورائدة ترتقي الى حجم المسؤولية التاريخية. وعمل الهيئة وفروعها يحتاج الى أكثر من مضاعفة الميزانية ونرجو أن يكون دعم وزارة الثقافة متواصلا للهيئة المديرة وللفروع في الجهات. فبإمكانيات بسيطة جدا، وطموحات لا حدود لها، وانسجام كبير، تسعى الهيئة الى مواصلة عملها وتحقيق برنامجها الذي يصبّ في الاختيارات الوطنية من أجل أن يكون الإبداع التونسي حاضرا في كل المحافل داخل تونس وخارجها، رغم ما يعيشه الاتحاد من حصار تمارسه بعض الجرائد اليومية على بيانات الاتحاد وتقارير نشاطه، ويمكن لمن يرغب في معرفة نشاط الاتحاد أن يعود الى موقع الاتحاد على شبكة الأنترنات: http://uetn.net ليدرك بعض جوانب هذا النشاط الثري سواء ما تعلّق منها بنشر الكتب أو مجلة «المسار» أو المكتبة الصوتية الى جانب الندوات ونشاط الفروع إضافة الى مواقع جانب من أعضاء الاتحاد. والأكيد أن الأيام القادمة ستحمل مزيد الاضافات التي عملنا على تحقيقها دون ضجّة إعلامية لأن غايتنا الأساسية تطوير أساليب العمل في هذه المؤسسة العريقة التي تحتاج الى تطوير يرتقي بعملها ويستجيب لطموحات أعضائها. كيف يرى محمد البدوي المشهد الأدبي في تونس صراحة؟ المشهد الأدبي في تونس ثري جدا من حيث الكمية، فعدد المنشورات كثير سواء ما تبنّته دور النشر أو ما كان على الحساب الخاص. ولا بدّ من التنويه بما تقتنيه وزارة الثقافة لأنه يساعد على تواتر عملية النشر، ونرجو أن يتضاعف عدد الاقتناءات من خلال مضاعفة ما تخصّصه الوزارة لاقتناء الكتب، ولا ننسى أننا مقبلون على سنة وطنية للكتاب نرجو أن تساهم في خلق تقاليد إيجابية تبقى دائمة ولا تنتهي بانتهاء السنة. غير أن هذا ا لعدد الكبير من المنشورات لا يرتقي كلّه الى ما يمكن أن ننعته بالإبداع، فقصيدة النثر مثلا كلمة حقّ وكثيرا ما أراد بها بعضهم باطلا، لأن الكثير مما يتمّ نشره في هذا الباب لا يرتقي الى مستوى الشعر، وساهم تطور تقنية النشر وانتشار الحاسوب في العائلات وفي المؤسسات الثقافية، في توهّم البعض القدرة على الكتابة والانتماء الى الكتاب بمجرد رقن النصّ بالحاسوب وإخراجه في شكل كتاب وطبعه. ولا يمكن أن ننسى دور النقد فما هو موجود حاليا غالبا ما ينتمي الى النقد الثقافي السيّار، والجامعة غالبا ما تهتم بالتجارب الرصينة التي أثبتت جدارتها وضمور المساحات المناسبة لتقديم أعمال نقدية متعمّقة، واهتمام الأدباء الشبان وخرّيجي الجامعات بكتابة الشعر والقصّة أكثر من كتابة النقد، كلّ هذا ساهم في اختلاط الحابل بالنابل في الساحة الأدبية، وأخشى أن تتكرّس الرداءة بما قد يصاحبها من ضجيج إعلامي وتصبح مرجعا. قياسا بالتجارب العربية أين تقف التجربة التونسية في الرواية والقصة والشعر؟ إن الإجابة على مثل هذا السؤال يتطلب دراية كبرى ومعرفة بما يُنشر في البلدان العربية الأخرى. وليس غريبا أن تكون أعمال جيدة في عدد كبير من البلدا ن من غير أن تكون معروفة بالقدر الكامل، لأن الجانب الإعلامي غير كاف للتعريف بها. ودور النشر غالبا ما نجدها مقصّرة في التعريف بمنشوراتها، وظاهر النشر على الحساب الخاص غالبا ما تكون محرومة من الدعم الاعلامي إلا من كانت له علاقات مميزة مع الفضاءات الاعلامية. وحين ننظر في كمية السحب ندرك أن حدود الكتاب التونسي تقلّصت لتصبح حدودا جهوية لا وطنية فكيف تريدها أن ترتقي الى المستوى القومي وقد وصل بالبعض الى الاكتفاء بطبع 500 نسخة من مجموعة شعرية أو رواية وفي أقصى الحالات يصل السحب الى ألف نسخة تأخذ منها الوزارة أكبر نسبة وتذهب البقية في الإهداءات وبعض المبيعات الهزيلة لعدد من المؤسسات في الجهة. إن الإبداع التونسي في الجملة محمود ونريده أن يسافر ويتجاوز الحدود ونحن نكتشف هذا في المناسبات الثقافية العربية بالمقارنة مع نظراء أدبائنا، غير أن المواكبة الاعلامية لحركة النشر المزدهرة ليست على نحو ما نريد. وكثيرا ما نجد مبدعينا على درجة كبيرة مع التواضع، وتتحكّم فيهم ظروف العمل اليومي بعيدا عن الأضواء والاعلام. وقد يقف طموحهم في فعل الكتابة والنشر لأن إمكانيات الانتشار والسفر لا تتوفّر إلاّ للقليل من رجال الأدب. وأملي أن يقع تفعيل ما توصّلت إليه الاستشارة الوطنية للمطالعة لتكون السنة القادمة سنة وطنية تتحقق فيها مصالحة التونسي مع الكتاب وبصفة خاصة مع الكتاب التونسي. كأن يقع تقنين الجوائز المدرسية مثلا وجعلها تقوم على الكتاب التونسي بنسبة لا تقلّ عن 50 في المائة. إضافة الى كثير من الاقتراحات التي أفرزتها الاستشارة. إننا بقدر ما نعتزّ بإبداعنا، لا بدّ أن نكون صرحاء مع أنفسنا، فما يتمّ صرفه في ملاعب الكرة أضعاف ما يصرف على اقتناء الكتب، وما يتمّ دفعه لإنجاز شريط سينمائي واحد يفوق عديد المرات المنحة السنوية لاتحاد الكتاب. إن المال قوام الأعمال، ولا بدّ أن تقوم المؤسسات الاقتصادية والبنكية بدور رائد في تنمية العمل الثقافي، وأملي أن يصبح بإمكان الكاتب التونسي أن يعيش من قلمه حياة كريمة، ليتفرّغ للإبداع، ويترك العمل الوظيفي لمن تقف طموحاتهم عند هذا الحدّ.