.. أن نقف على حافة قبر ونسكب دموعنا على أحبابنا ونترحّم على كل الجثامين المدفونة داخل كل هذه الرموس، فإننا ندرك حينئذ معنى الموت وقيمة العلاقة التي كانت تربط بين الهياكل الآدمية المتحرّكة فوق الأرض والآخرون الممدّدون تحت التراب.. وحين نبارح المقبرة نشعر بالارتياح لأن الصورة قد اكتملت أمامنا بألوان الوفاء والخشوع بالامتثال الى قضاء قد أراده اللّه أن يكون وتلك هي سنّة اللّه في خلقه. .. أما أن تختفي الصور الجميلة من أمام أعيننا في لمح البصر وتتبخّر أحلامنا التي صنعناها بالأمل والألم وتُنتشل فلذة كبدنا من أحضاننا نحو وجهة مجهولة فذلك ما يجعلنا نتيه في مفترقات لا نستطيع معها أن نميّز بين الواقع والخيال.. والخطإ والصواب.. وبين الوضوح والغموض. هذا ما فهمناه من فحوى الاستغاثة الصادرة عن أسرة بسيطة وملتاعة تقطن بمنطقة العين البيضاء غرب مدينة حفوز بعد أن فقد الزوجان طفلتهما الصغيرة بأحد المستشفيات منذ عقدين من الزمن في ظروف مازالت تبدو لهما غريبة وغامضة بعد أحداث مثيرة. قضية تعود الى سطح الأحداث .. وبما أنّ الزوجين لم يستوعبا ويقتنعا بقصّة موت ابنتهما في المستشفى فقد راودتهما فكرة المشاركة في أحد البرامج التلفزية الذي يهتم بجمع شمل أفراد العائلة المتباعدة.. فطلبت الأم من زوجها أن يستخرج مضمون ولادة خاص بطفلتهما الفقيدة أو المفقودة وكم كانت دهشتهما كبيرة حين تبيّن لهما أن الوثيقة المستخرجة حديثا لا تحمل بيانا أو إشعارا بالوفاة فزاد يقينهما بأن ابنتهما لا تزال على قيد الحياة وقد شاع الخبر بسرعة بين الأجوار والمتساكنين. «الشروق» تحولت الى منزل السيد الشايب العبيدي بمنطقة العين البيضاء للاطلاع على حقيقة الأمر.. وعند اقترابنا انعرجنا الى طريق فرعيّة فرأينا حشودا من المتساكنين قد سبقتنا لمعرفة تفاصيل الحكاية. كان اللقاء الأول مع الأم وهي السيدة منجيّة العبيدي (43 سنة) وقد فسحنا لها المجال لتروي لنا تفاصيل الحكاية. تنهدت المرأة وكأنها تستجمع شتات أفكارها ثم همست لنا بنبرات حزينة بما يلي: .. لقد أطلقت صرختي الأولى مع لحظات المخاض بقسم الولادة بمستشفى حفوز فجر يوم 28 سبتمبر 1988 ولما أفقت من سبات غفوتي حمدت اللّه على ساعة الخلاص وانشرح صدري ونسيت أوجاعي وارتسمت على ملامح وجهي الشاحب ابتسامة البهجة حين لمحت طفلتي «سهام» الى جانبي كأنها البدر المشرق وهي تعبث بيديها وساقيها الورديتين. أمومة قصيرة بعد صمت قصير واصلت منجية حديثها بعيون دامعة: لقد بقيت في المستشفى ثلاثة أيام كاملة كنت أقوم خلالها برعاية ابنتي رعاية تامة وشاملة.. ولم ألاحظ عليها خللا في مواعيد غذائها ونومها وفي الأثناء وقع تسجيل رسم ولادتها بدفاتر الحالة المدنية ببلدية حفوز تحت عدد 504 من سنة 1988. ولكن لما دخل الطبيب الى غرفتي وحدّق في الصغيرة عبّر لي عن انبهاره بجمالها ونشاطها فجعلني أحسّ بسعادة كبرى.. ولكنه فاجأني بعد ذلك بقوله بأن المولودة حرارتها مرتفعة وتستوجب حالتها نقلها الى مستشفى ابن الجزار بالقيروان للقيام بفحوصات وقائية لا تكتسي خطورة.. وطمأنني بأنها ستعود في نفس سيارة الاسعاف التي ستقلّها ذهابا وإيابا.. حين انتشلوا ابنتي من بين أحضاني أحسست وكأنها أخذت معها أنفاسي ونبضات قلبي وأظلمت الدنيا من حولي ولم يغمض لي ليلتها جفن.. وفي كل مرة كنت أستشعر صراخها يطنّ في أذني فيستجيب لها صدري بالحليب ولكن حين ألتفت الى مكانها الشاغر تتدفق دموعي وأحسّ بلوعتي وغربتي. رضيعة في نفق الغموض تواصل منجية حديثها قائلة: عادت سيارة الاسعاف وربضت في مكانها بدون أن تعود ابنتي وبسؤالي عنها أفادوني بأنها لاتزال تحت العلاج.. فتراكمت أحزاني وانتابني احساس بالكآبة.. وبدافع الشفقة على حالي سافر والدي وعمي الى مستشفى ابن الجزار بالقيروان للعودة بالطفلة ولكن تمّ اشعارهما بأن الرضيعة قد توفيت دون أن يسمحا لهما برؤية الجثة أو بتسلمها.. فصرخت الصرخة الثانية عندما سمعت الخبر.. وإن كانت الصرخة الأولى في لحظات اللاوعي بحكم الصراع مع الألم أثناء الولادة.. فإن الصرخة الثانية أطلقتها وأنا واعية كل الوعي بأن طفلتي لم تمت في غياب الجثة ودون أن يدرج بيان وفاتها بمضمون الولادة. نقاط استفهام ومع صمت الأم يتدخل السيد الشايب العبيدي والد سهام بنبرات كلها حزن وأسى فبادرنا بعديد الأسئلة التي كان يطرحها على نفسه ويهذي بها للحاضرين من حوله وجعلته في حيرة دائمة فقال: كيف تمّ تحويل ابنتي من مستشفى حفوز الى مستشفى ابن الجزار بالقيروان وهي في حالة طبيعية وسليمة بحكم انتظام مواعيد نومها وغذائها حسب شهادة أمها والنزيلات اللواتي من حولها؟ وكيف يأخذونها بدون أن ترافقها أمها التي تحتاجها في الرضاعة على الأقل؟ وكيف يتمّ اشعارنا بالوفاة دون أن نتحقق من موتها أو نتسلم جثتها؟ .. لقد سكنت في نفوسنا شحنة من المرارة وتحيّرت أوجاعنا حين راودتنا فكرة الالتجاء الى أحد البرامج التلفزية لنطرح مشكلتنا.. وعند استخراجنا لمضمون الولادة اندهشنا حين لاحظنا أن الوثيقة المستخرجة لا تحمل اشعارا بالوفاة. يتنهّد الرجل ثم يختم كلامه قائلا: نحن في دولة القانون والمؤسسات ويرعى فيه وطننا كل الشرائح العمرية من أبنائه.. لذلك أرفع ندائي كمواطن بسيط لا حول ولا قوة له يطالب بفتح بحث حول هذا الموضوع ونبش كل الملفات المتعلقة بهذه القضية الغامضة حتى نقف على كامل الحقيقة مهما كانت نتائجها حتى تهدأ نفوسنا وتخمد أوهامنا وأحزاننا.