تكاد تكون أول زاوية على هذا النحو بالبلاد التونسية وطريقتها فريدة من نوعها، ضاهى عدد زوارها مقام أبي زمعة البلوي «سيدي الصحبي» بالقيروان خاصة أثناء الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.. يقولون أن تربتها طاهرة ومباركة لذلك يسعى الكثيرون من كل البقاع لزيارتها وأخذ شيء من هذه البركة العظيمة ذات المعاني الروحانية لا يعرف كنهها إلا كل من حط الرحال بحواشيها.. انها زاوية سيدي اسماعيل يأتونها كبارا وصغارا.. ومن كل فجّ عميق، من تونس وخارجها.. جميعهم ينتسبون الى الطريقة الاسماعيلية أو هكذا.. التي اشتهرت بها هذه الزاوية المنتصبة بأحد الأحياء الشعبية في مدينة الرديف من ولاية قفصة. رواد تميزوا بخاصية لباسهم التقليدي كالجبّة والسروال العربي والعمامة وكأنهم يمثلون احدى المجموعات الصوفية المنتشرة في بلاد الشام وهم يرددون الأدعية والأذكار والتعويذات وقد سلموا على «حفيظ» الزاوية المذكورة الذي يمثل الشيخ اسماعيل مؤسس الطريقة الاسماعيلية بتلك البقعة حيث انتقلت خلافة له من بلاد فاس بالمغرب كما تؤكده الروايات بأن فاس أكثر المدن المغربية شهرة بهذه الطريقة.. فالجزائر ثم جهة توزر بالجنوب التونسي باعتبارها أقرب نقطة للحدود الجزائرية وفق ما تناقلته الألسن. وقبل وفاة الشيخ اسماعيل أوصى تلميذه بأن يخلف طريقته وأن تُبنى له زاوية تنتهج نفس المنهج وهي الطريقة الاسماعيلية وبالتالي تكون محجا للزوار هناك. ولعل الملفت أن يميز زاوية سيدي اسماعيل عن بقية الزوايا في مختلف جهات الجمهورية هو الأعداد الكبيرة للزوار الذين يتوافدون عليها، فالمشهد شبيه الى حد ما عاصمة الأغالبة القيروان ليلة المولد النبوي الشريف، بيد أن الفرق بين هذه وتلك يختلف اختلافا كليا في جوانبه الروحية والعقائدية والدينية والطرقية، فبعض زائري مقام سيدي الصحبي جاؤوا لغايات أخرى قد تكون غير نبيلة حيث يختلط الصالح و«الطالح» وما شهدناه يغني عن كل تعليق! مسك... وعنبر... ودعوات مبرورة المشهد الذي تعرفه مدينة الرديف طيلة ثلاثة أيام وداخل أزقتها وأروقة الزاوية الاسماعيلية تكاد لا تصدق فالبعد الروحي المتوهج مازال يجمع قاصدي هذه الزاوية المباركة ويعانق أفئدتهم ويلفها بغشاء اللطف والتوادد، هم بالمئات تآلفت قلوبهم وانسجمت أرواحهم رغم تباعد المسافات وتعدد المشاغل واختلاف الميولات، ظلوا على عهدهم ووعدهم في زيارتهم السنوية للزاوية وشيخها خليفة «الامام» اسماعيل واستنشاق آثار المذهب الطرقي. الصورة التي حقا تشدّ الانتباه في زاوية سيدي اسماعيل هو الاكتظاظ في كل ركن من الزاوية ومحيطها.. في الغرف.. وفوق السطوح.. وأمامها أين توزع الرواد وهم جيئة وذهابا وكل بما نطقت شفتاه وما لهج قلبه وردّد لسانه فيما نشطت تجارة البخور بجميع أنواعه وروائحه وسط أجواء من التهليلات والأذكار والصلاة على سيدنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم.. ومن الصور التي تحتفظ بسرها في زاوية سيدي اسماعيل بالرديف أن الزوار بعد تناول العشاء في غرف أعدت للغرض يقومون بعد صلاة العشاء ب«العمارة» وهي تعني الوقوف في صفوف منتظمة خلف شيخ الزاوية وهو قاعد مردّدين عبارة «أه.. أه.. أه» في شكل سجود وركوع متواصل الى حين اكتمال «الورد» وعند الصباح يغادر هؤلاء الزاوية تاركينها لغيرهم من الزوار الذين حلوا بالمكان بغية البركة ووفاء للعهد والوعد.. وتعتبر هذه الزيارات لزاوية سيدي اسماعيل مناسبة جليلة لنيل الأجر والقيام بأعمال برّ وخير حيث يتبرع الرواد بالأضاحي والمأكولات لإطعام اخوانهم زوار المقام، خلاف ذلك فزاوية سيدي اسماعيل بالرديف تتمتع بميزانية خاصة من أجل ما يلزمها من صيانة وإنارة ومفروشات وغيرها دون التغافل عن بعض الأملاك الفلاحية «حبس» عليها وهي عادة كانت جارية وسائرة المفعول في كامل ربوع البلاد التونسية قبل أن تلغى نتيجة سوء التصرف والاهمال الذي طالها. لكن كل مدينة وطبيعة أهلها.. وربما الرديف تمثل الاستثناء من حيث الحفاظ على هذا الارث لأن أهلها من ذوي الأصول الطيبة والعريقة.